منذ إلغاء الخلافة العثمانية التركية سنة 1924، بدأت تنتشر أفكار ترى أنّ الدين قضية، والإسلام هو الحل، والجهاد هو سبيل الخلاص، والموت غاية، والخلافة آتية لا ريب فيها، والانتماءات الدينية أو المذهبية مقدمة على المواطنة، والغرب متآمر على الإسلام، وكل الآخرين ملّة واحدة، والتنوير معاداة للدين، والطريق إلى المستقبل هو بالسير بالعكس نحو الماضي، ولرجل الدين الوصاية على الجميع.
وأخذت هذه الأفكار طريقها إلى مناهج التعليم، ومحتوى الإعلام، وفلسفة التشريعات، ومن باب أولى أنها كانت مضمون الخطاب الديني، حتى شكّلت وعي المجتمعات العربية جيلاً بعد آخر، تحت وعد تحويل هذه الأمة إلى أمة عظيمة.

وظهر «الإسلامي» في مقابل المسلم، والفروق بينهما كما لخصه بعضهم هي: يرى المسلم أن الله يحميه، ويرى «الإسلامي»- المنتمي إلى تيارات ما يسمى «الإسلام السياسي»، أنه هو الذي يحمي الله. ينشغل المسلم بإيمانه، وينشغل «الإسلامي» بإيمان جاره. يستفتي المسلم قلبه، ويستفتي «الإسلامي» حزبه. يرجع المسلم إلى ربه، ويرجع «الإسلامي» إلى «مجلس الإرشاد». يريد المسلم أن يتأكد من دخوله الجنة، ويريد «الإسلامي» أن يتأكد من دخول غيره إلى النار. يتخذ المسلم الدين طريقاً ليتبوأ مقعده في الجنة، ويتخذ «الإسلامي» الدين طريقاً ليتبوأ مقعداً في البرلمان. يمتنع المسلم عن فعل شيء لا يحبه، ويمنع «الإسلامي» الآخرين من فعل شيء لا يحبه.

وكانت هذه الرؤية للإسلام عاملاً رئيسياً لتسميم جو الشرق الأوسط بالكراهية، والتشدد الديني، والتبرير للعنف، ورواج ثقافة الموت والانغلاق، وتمهيداً لظهور التنظيمات الإرهابية التي لم تتوقف عند حد سفك الدماء في أرجاء العالم، وخطف الطائرات، وتفجير السفارات، بل سعت إلى تأسيس دولة إرهاب على مساحات شاسعة من العراق وسوريا ورفعت فوقها الرايات السود، وعلقت الرؤوس على أسوار الحدائق العامة، وأخذت تبيع وتشتري في النساء تحت عنوان السبايا، وتحقق بذلك الوعد بالأمة العظيمة!

وفضلاً عن «الدويلة الداعشية» التي سوّيت بالأرض في بداياتها، فـ«الإسلاموية» امتلكت السلطة في أكثر من مكان، وكانت جزءاً من السلطة في غير مكان، وكانت تؤثر حتى في واقع بعض الدول التي وقفت فيها السلطات موقفاً حازماً منها، إذ كانت مضطرة لمسايرة بعض الأفكار «الإسلاموية» لقطع الطريق عليها نحو الوصول إلى السلطة، فكانت المحصلة أن «الإسلاموية» كانت حاضرة طوال الوقت، ومع ذلك لم تفلح في خلق نموذج واحد لدولة ناجحة، وكل الدول التي حققت نجاحاً، هي بالذات التي لم يكن لـ«الإسلاموية» تأثير كبير عليها.
وفي الوقت الذي نشهد فيه انحساراً للمد «الإسلاموي» نتيجة فشل هذا المشروع وانصراف المجتمعات عنه، فضلاً عن تبلور مشروع جديد يعيد تقديم الإسلام باعتباره ديناً يحث على ثقافة الحياة، والانفتاح، والتفاهم، والتعايش، فثمة دول تسعى إلى نفخ الروح في جثة «الإسلاموية»، وعلى رأسها تركيا بقيادة أردوعان، الحالم بخلافة تركية تحقق مصالحه، مهما كان الثمن الذي ستدفعه الشعوب العربية نتيجة تجربة المجرب الذي ثبت فشله على‏‭ ‬مدار‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان.‭
*كاتب إماراتي