الدولار الأميركي عملة دولية قوية، وهو يمنح الولايات المتحدة نفوذاً مالياً وسياسياً كبيرين، وقد وصفه الخبراء بأنه «سلاح قاتل»، يمكن استخدامه في الحروب الاقتصادية، وقوة ضغط في المعارك العسكرية.. ويبرز ذلك بشكل جلي في احتدام الحروب التجارية المتعددة والمتنوعة، وما يرافقها من حروب في أسعار صرف العملات الدولية. وبما أن المال يشتري السلطة والنفوذ، خاصة بالنسبة للدولة التي تصدر العملة الأكثر انتشاراً في العالم، فإن نفوذ الدولار والتداعيات «الجيوسياسية» التي يسببها تدهور عملات أخرى، يجعله مركز جذب وملاذاً آمناً. ويبدو هذا ما يحصل حالياً في إيران (ومعها أذرعها في العرا ق وسوريا ولبنان)، التي تشهد تدهوراً كبيراً في عملتها، نتيجة العقوبات عليها، والشروع في تنفيذ قانون «قيصر» الأميركي ضد الحليف السوري، وضد المؤسسات والكيانات التي تتعاون معه.
ورغم أن السلطة تلاحق مستخدمي الدولار الأميركي والمتاجرين به من خارج حلقتها الضيقة، فإن الدولار حالياً هو العملة الأكثر استخداماً في سوريا. ومع شح المعروض منه، فالأهم من وجوده كنقد متداول، هو تعميمه كعملة مرجعية موثوقة، مما يسبب اضطراباً اقتصادياً أكبر جرّاء ندرته واشتداد الطلب عليه. ومن هنا يعتبر عامل «الثقة» شديد الأهمية، والثقة لا تأتي من أسباب نفسية، وإنما من معرفة بالوضع الاقتصادي والمخاطر التي قد يتعرض لها، لاسيما أن استقرار العملة المحلية يعكس الاستقرار المالي والاقتصادي في البلد.
لقد انتقل نظام فرض العقوبات من يد مجلس الأمن الدولي إلى الدول الكبرى، وأهمها الولايات المتحدة، حيث أصبحت إحدى أدوات سياستها الخارجية، وتستخدمها بديلاً عن الحرب العسكرية المكلفة. وبما أن الهدف الذي وضعته في مواجهة إيران، يكمن في لجم دورها في المنطقة بموازاة الملف النووي، لجأت إلى السلاح الاقتصادي الذي تعتبره الأمضى، وبمثابة السلاح النووي الذي استخدم في الحرب العالمية الثانية، وهي تأمل مع تنفيذ قانون «قيصر» أن تصبح «الورقة السورية» في يدها بشكل كامل بحيث لا يمكن إعادة الإعمار أو عودة اللاجئين، أو حتى بقاء النظام، في ظل انهيار الوضع المالي. والعقوبات لا تطال السوريين فحسب، بل تشمل منع مساهمة شركات صينية وروسية كبرى في الإعمار، على أمل أن يفتح الباب لاستئناف مباحثات جنيف والاتفاق على الحل السياسي، مع تقاسم النفوذ ضمن استراتيجية واضحة المعالم تحقق التوازنات في استقرار المنطقة.
لا شك في أن إعادة إعمار سوريا، والتي تقدر تكلفتها بنحو 400 ملياردولار، هي معركة حيوية للمتنافسين الإقليميين والدوليين الساعين إلى فرض معادلة توازن داخلية وإقامة مناطق نفوذ لهم. ونظراً إلى كون روسيا وإيران الأقوى «جيوسياسياً» على الأرض، فهما أضعف اقتصادياً من القوى التي خسرت الصراع، والتي لديها المال والقدرة على التمويل والمشاركة بتسوية سياسية. وهكذا أصبحت سوريا ساحة لخلاف بين محاولة واشنطن الحفاظ على هيمنتها العالمية باسم نظام عالمي ليبرالي، وبين القوى الأخرى بقيادة روسيا والصين، مع الإشارة إلى أن الموقف الرسمي اللاتحاد الأوروبي، أنه لن يشارك في إعادة الإعمار حتى يتم التوصل إلى حل سياسي موثوق «يتماشى مع قرار مجلس الأمن 2254 وبيان جنيف».

*كاتب لبناني