داهمت قوات مكافحة الإرهاب العراقية، في أول تحرك رسمي لها بهذا الحجم، مقرات «كتائب حزب الله» الضالعة في عمليات إطلاق صواريخ على المنطقة الخضراء واستهداف معسكرات تابعة للجيش العراقي وقوات التحالف الدولي، وبالأخص استهداف القوات الأميركية وقواعدها. وأسفرت المداهمة عن إلقاء القبض على 14 عنصراً من الميليشيا، وعن ضبط معمل لصناعة الصواريخ. وقيل إن أحد المعتقَلين خبير إيراني في هندسة الصواريخ وتوجيهها. وفي استعراض فج للقوة، حاصرت ميليشيا «كتائب حزب الله»، فجر الجمعة، مقر جهاز مكافحة الإرهاب بنحو 80 عربة محملة بالأشخاص والأسلحة المتوسطة والثقيلة، بقيادة «أبو فدك»، في محاولة فاشلة لتحرير عناصر الميليشيات المحتجزين، مرددين هتافات بـ«سقوط الكاظمي». ثم جابت العرباتُ المدججة بالأسلحة بعض الشوارع المحيطة بالمنطقة الخضراء.
وفي الوقت ذاته، سارع الموالون لإيران في العراق، من زعماء ميليشيات وساسة ونواب، إلى شن حملة ضد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، متهمين إياه بالإيقاع بين جهاز مكافحة الإرهاب و«الحشد الشعبي». فماذا يعني تحرك الكاظمي في مواجهة ميليشيا «حزب الله»؟ وهل يستطيع رئيس الوزراء، في سنته التحضيرية، هدم أسس الدولة العميقة التي تنخر في أساسات الدولة الوطنية العراقية؟
تشكلت «الدولة العميقة» العراقية الحالية على يد الحرس الثوري الإيراني، بمؤازرة ميليشيات عراقية تتناغم معه إلى حد التبعية.. وهكذا، تأسست الدولة العميقة بالأدوات العراقية الحليفة، وعلى أنقاض «عراق صدام حسين» تأسس نظام المحاصصة السياسي، وتكرست هيمنة الأحزاب الدينية، ومعها الميليشيات العقائدية، في تشكيلات تتخلل الدولة وتوازيها. ومن خلال ذلك، تم ربط الاقتصاد العراقي بعجلة اقتصاد خارجي. وامتلكت تنظيمات الدولة العميقة - فعلياً - القرار السياسي، فعملت على تصفية الخصوم، وأصبحت عسكرة المجتمع واقعاً، لتبرز ميليشيا «الحشد الشعبي» كقوات موازية للقوات الحكومية، تحارب الإرهاب، وتطهر المدن التي احتلتها من الإرهاب.. لينشأ في المحصلة واقع عراقي جديد، يستند إلى الإنجاز المنسوب للميليشيات بمحاربة الإرهاب وتحرير المدن العراقية المحتلة، كل ذلك بمباركة حكومية عراقية.
لقد تمددت الميليشيات المدعومة من  الخارج  على الأراضي العراقية في الدولة العميقة، لكن حين تعارضت المصالح الأميركية مع المصالح الإيرانية، بدأت بيادق إيران في العراق بتبني خطاب سياسي مناهض للوجود الأميركي في العراق، وبتصعيد العمليات العسكرية ضد القواعد الأميركية. واليوم، تسوّق الأبواق الإعلامية لخطاب الميليشيات على أنه خطاب وطني يصف القوات الأميركية بأنها «قوات احتلال»، ولذا فمن حق الشعب العراقي «مقاومة المحتلين والغزاة»، في استخفاف لا مثيل له بعقول المتلقين، بينما تتجاهل هذه الميليشيا الحزبية حقيقة أنه لولا القوات الأميركية التي احتلت العراق قبل 17 عاماً، لما استطاعت هذه الميليشيات أن تجد لها موطأ قدم، ولما استطاعت أن تنفذ الأجندة  الخارجية في العراق، وأن تقوى شوكتها طوال السنوات الماضية.
لقد صرّح الكاظمي أن حكومته تواجه تحديات كبيرة، لاسيما على المستوى الاقتصادي الذي فاقمته جائحة كورونا، وكذلك على مستوى تحديد الهوية الوطنية، إضافة إلى فشل نظام المحاصصة الطائفية.. لذا، كانت البداية الضرورية، هي مواجهة ميليشيا «حزب الله». واليوم، لا خيار للكاظمي سوى استرداد الدولة العراقية المسلوبة، وإعادة إحياء مؤسساتها الشرعية، والحد من تغلغل «الدولة العميقة» وتحجيم أذرعها.. خدمةً للعراق وشعبه، مع تحمّل العواقب، مهما كانت.