يأتي التغلغل الثقافي «الناعم» ضمن أهم الأدوات التي تعتمد عليها تركيا في تنفيذ سياستها التوسعية تجاه العالم العربي، وذلك من خلال تبني استراتيجية واضحة للقوة الناعمة تستهدف في ظاهرها تهيئة الشعوب العربية لتقبل الثقافة ومنظومة القيم التركية، لكنها في الحقيقة تسعى إلى الترويج لسياساتها والدفاع عن مواقفها تجاه قضايا وأزمات المنطقة المختلفة.
لقد تبنت تركيا خلال العقد الأخير استراتيجية متدرجة للتغلغل الثقافي «الناعم» في الدول العربية، بدأت بالدراما التي تروج للثقافة والقيم التركية من أجل جذب قطاع عريض من الشباب العربي، ثم تحولت هذه الدراما في مرحلة لاحقة إلى التركيز على الجوانب التاريخية والعسكرية التي تعيد تمجيد تاريخ الإمبراطورية التركية وتروج لإحياء الخلافة العثمانية، باعتبارها تشكل الأساس الروحي أو الثقافي في تقبل العالم العربي لـ«العثمانية الجديدة» التي بدأ نظام رجب طيب أردوغان تنفيذها على أرض الواقع خلال السنوات القليلة الماضية. ويلحظ المتابع للدراما التاريخية التركية بوضوح كيف أنها تستهدف الترويج لمجموعة من الرسائل المعدة بعناية وإتقان كبيرين، من بينها على سبيل المثال لا الحصر أن «تركيا قائد العالم الإسلامي»، وأنها «المدافع الأول عن القضايا الإسلامية»، فمسلسل «قيامة أرطغرل» الذي يتناول سيرة «أرطغرل» بن سليمان شاه، والد عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، ويحظى بمتابعة الملايين في العالم العربي، ليس سوى محاولة للترويج مجدداً لوحدة العالم الإسلامي حول زعيم يتمتع بالكاريزما، ولهذا لم يكن غريباً أن يحظى هذا المسلسل بإعجاب أردوغان الذي يسعى إلى تصوير نفسه بأنه «أرطغرل» هذا الزمان، وأنه «هذا الزعيم المنتظر» الذي تقع عليه مسؤولية توحيد العالم الإسلامي.
وتعتمد سياسة التغلغل التركي الناعم في العالم العربي كذلك على تأسيس عدد من المنابر الإعلامية باللغة العربية، ومنها قناة «trt» التي تعبر عن الثقافة التركية في شتى المجالات، كالفن والعلم والسياسة ونقلها إلى العالم العربي، وقد تم افتتاح مكاتب لهذه القناة في العديد من الدول العربية. كما تولي تركيا أيضاً اهتماماً بتعزيز الشراكات الثقافية والإعلامية مع العالم العربي، من خلال تقديم الدعم لبعض الجمعيات الناشطة في هذا المجال، ومن بينها «الجمعية التركية العربية للعلوم والثقافة والفنون» التي تتخذ من العاصمة التركية أنقرة مقرّاً رئيساً لها، وتعمل على تعزيز أواصر التعاون الثقافي مع العالم العربي.
هذا التغلغل الثقافي الناعم في العالم العربي، والذي يمكن وصفه بـ«الحرب الناعمة»، يبدو في ظاهره تعبيراً عن «القوة الناعمة» لتركيا، ولكنه في الحقيقة لا يختلف بأي حال عن تدخلها العسكري المباشر في العديد من الدول العربية، لأنه يستهدف تغيير ثقافة الشعوب العربية، وجعلها تتقبل السياسات التركية، وتدافع عنها حتى لو كانت تعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية التي تقوم على ضم أجزاء من الدول العربية والاستيلاء على ثرواتها. وليس من قبيل المبالغة القول في هذا السياق إن سياسة «التغلغل الناعم» هي التي مهدت لتركيا التدخل في شؤون العالم العربي بهذه الطريقة السافرة التي لا تحترم مبادئ حق الجوار أو السيادة الوطنية للدول العربية، وإنما تتصرف - كما الدول الاستعمارية القديمة- باعتبارها قوة إمبراطورية تسعى إلى فرض إرادتها على العالم العربي، والاستيلاء على مقدراته، من خلال فرض أمر واقع على المناطق التي توجد بها عسكرياً، كما هو الحال في الشمال السوري أو في إقليم كردستان العراق أو في لبيبا، أو تلك التي تتطلع إلى تعزيز نفوذها فيها مستقبلاً، خاصة الدول التي تنشط فيها جماعة «الإخوان»، كمحاولة لإحياء مشروع الإسلام السياسي مجدداً في المنطقة.
إذا كانت الدول العربية أدركت خطورة مشروع تركيا التوسعي، وبدأت تتبنى مواقف واضحة لتدخلاتها تجاه مناطق الأزمات في العالم العربي، فمن الضروري أيضاً أن تتصدى في الوقت ذاته لسياسة التغلغل الثقافي «الناعم» التي يتبناها نظام أردوغان، بهدف اختراق المجتمعات العربية والتأثير في هويتها الثقافية، فهذا التحدي لا يقل في خطورته عن التدخل العسكري، لأنه يرتبط بالوعي الجمعي للشعوب العربية، فلم يعد مقبولاً الآن أن يتم الاستمرار في عرض العديد من المسلسلات التركية على القنوات الفضائية العربية على مدار الساعة في وقت تواصل فيه تركيا تنفيذ أطماعها التاريخية في العالم العربي، من خلال إذكاء نيران الصراعات، ودعم الجماعات المتطرفة والإرهابية، لهدم مرتكزات الدولة الوطنية في العديد من الدول العربية، والانطلاق منها لإحياء «العثمانية الجديدة».