نجح المحتجون ضد استمرار بعض مظاهر التطرف العنصري في الولايات المتحدة، في تحقيق تقدم جديد على طريق المساواة العرقية. واستجابت إدارة الرئيس دونالد ترامب، وحكومات كثير من الولايات، لأهم المطالب التي طُرحت في احتجاجات واسعة، بدأت إثر مقتل الشاب الأسود «جورج فلويد» خنقاً تحت رُكبة شرطي أبيض في 25 مايو الماضي.
والمفترض أن يكون المحتجون راضين ومسرورين للنتائج التي حققها تحركهم ضد ما بقي من تطرف عنصري، بعد القضاء على معظم مظاهره خلال العقود الأخيرة. وهذا افتراض منطقي. لكن الاحتياجات الجماهيرية لا تعرف المنطق في كثير من الأحيان. فما إن يندلع احتجاج في الشارع، حتى تظهر اتجاهات جامحة وسط المحتجين. وحتى إذا كان أكثر المحتجين عاقلين، يستطيع الأشد جموحاً، في العادة، قيادة الاحتجاج أو «ركوبه»، والتحكم في دفته.
وهذا ما حدث في الاحتجاجات ضد استمرار بعض مظاهر التطرف العنصري، إذ تصاعد تطرف مضاد كان السعي إلى تقويض رموز تاريخية، ومازال، أبرز أشكاله. اتجه هذا التطرف المضاد في بدايته ضد بعض رموز مرحلة سابقة، كانت العبودية فيها جزءاً من التركيب الاجتماعي في الولايات المتحدة، وخاصة في الولايات الجنوبية. وكان تمثال جيفرسون ديفيز، وآخرين من قادة ولايات جنوبية تمسكوا باستمرار العبودية، إلى أن هُزموا في الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، الهدف الأول للتطرف المضاد، الذي اتجه بعد ذلك صوب أبرز رموز التاريخ الأميركي، مثل جورج واشنطن أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وصانع دستورها ورئيسها الأول. فقد أطاح محتجون بتمثال له في ولاية أوريجون، الأسبوع الماضي. كما جرت محاولة فاشلة لإزالة تمثال توماس جيفرسون، الكاتب الرئيسي لإعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1776، ورئيسها الثالث.
ويُعيد هذا السلوك المتطرف، طرح السؤال عن كيفية تعاطي الشعوب مع تواريخها، وهل يقبل الناس التاريخ، كما هو، بحلوه ومُره، ويحاولون استيعاب دروسه، أم ينتقي كل منهم ما يُعجبه فيه، ويهيل التراب على ما لا يروق له؟ وتعود أهمية السؤال إلى وجود انقسام، أو خلاف، في معظم المجتمعات بشأن بعض قضايا التاريخ.
ورغم أن الموضوع المثار في هذا السؤال لم يُحسم بشكل كامل، مما يؤدي إلى إعادة إنتاجه من وقت لآخر، فقد ازداد إدراك مغبة السعي إلى استئصال جزء من الذاكرة التاريخية لأي شعب، فصار الأمر محصوراً في ردات فعل جامحة على أحداث أو مواقف تثير غضباً لدى بعض الفئات في هذا المجتمع، أو ذاك.
ومع ذلك، يبقى ضرورياً تدعيم التوجهات العقلانية في تعاطي الشعوب مع تواريخها، على أساس أن التاريخ لا يُقَيم بمعايير الحاضر، وأن لكل مرحلة تاريخية سياقها الذي لا يصح خلطه بغيره. فما كان أمراً معتاداً في مرحلة سابقة، لا يمكن المحاسبة عليه عندما يصبح مذموماً في فترة تالية.
وإذا فتحنا الباب للمحاسبة بأثر رجعي، قد لا يبقى لأي شعب أو أمة شيء مُضيء في تاريخها، وسنُسقط الكثر ممن يُعدون رموزاً في هذا التاريخ. وإذا حاسبنا من شاركوا في استعباد أفارقة في أميركا وأوروبا في مراحل سابقة، سنقلب التاريخ الحديث رأساً على عقب، وسنهدم الكثير من رموز التقدم والتنوير. خذ، على سبيل المثال فقط، المفكر الإنجليزي جون لوك، الذي مازالت كراسته عن التسامح أحد أهم المصادر التي يُرجع إليها في مجال مواجهة التعصب والتطرف. فقد كان لوك أحد المستثمرين في «الشركة الأفريقية الملكية» التي قامت بنقل عشرات الآلاف من ساحل أفريقيا الغربي، إلى مستعمرات بريطانية في أميركا الشمالية، للعمل في مزارعها خلال ستينيات وسبعينيات القرن السابع عشر (قبل تأسيس الولايات المتحدة)، حيث صاروا عبيداً لدى أصحاب هذه المزارع، وفق القانون المعمول به فيها حينئذ. وكان هذا القانون ينص على ما معناه، أن كل رجل حر لديه سلطة مطلقة على عبده، باستثناء الدين والرأي.
ولم يجد لوك تناقضاً بين إيمانه بمبدأ التسامح، ودوره في جلب أفارقة إلى أميركا لاستعبادهم، لأن العبودية كانت إحدى معطيات مرحلته التاريخية. وهذا يفسر لماذا أهمل التاريخ دوره المرفوض بمعايير عصرنا في ترسيخ العبودية، واحتفى بمساهماته الفكرية التي ساهمت في إنهاء هذه العبودية في مرحلة تالية، وما زالت تساهم في مواجهة التعصب والتطرف.
والحال، أنه لا سبيل إلى إنهاء ما بقي من تطرف عنصري، وهو قليل، إلا بتأكيد مبدأ التسامح واحترامه، سواء في الحاضر، أو في التاريخ.