تكرست الفردية كفضيلة وكقيمة أساسية في التفاعل مع الثورة الصناعية الرابعة، وتتغلغل القيم الفردية اليوم في الأفكار وأسلوب الحياة، والحال أنها مستمدة من صعود المساواة على نحو غير مسبوق في التاريخ، ربما منذ تحول الإنسان إلى التنظيم الاجتماعي والسياسي في مدن وممالك قبل حوالي اثني عشر ألف عام، وأنشأ خلال ذلك نظاماً هرمياً للأعمال والطبقات، كما في الاقتصاد والاجتماع والثقافة.
وتؤشر قصة جورج فلويد، الأميركي الأفريقي الذي قتل أثناء اعتقاله في 25 مايو الماضي على يد الشرطة بسبب ما قيل إنه عنف مفرط مرده إلى الكراهية أو الاعتقاد بعدم المساواة بين الأميركيين من أصول أوروبية ومواطنيهم من أصول أفريقية. وكما هو معروف فإن تصوير الحادثة بكاميرا هاتف على يد فتاة من المارّة أدى إلى تداول واسع للقصة ثم إلى سلسلة من الأحداث والاحتجاجات السياسية والاجتماعية.
المسألة كما نعلم تتكرر دائماً في الولايات المتحدة، ولا يصل منها إلى الرأي العام سوى نسبة ضئيلة، لكن الشاهد في حادثة فلويد هو دور شبكات التواصل في التأثير وتداول المعلومات ثم الوعي الجديد الذي يتكرس الآن مصاحِباً لهذه التكنولوجيا في تقدير المساواة والشعور بها. لقد أظهرت شبكات التواصل مدى ضخامة وعمق التحولات في الأفكار الناشئة والمتغيرة والمنحسرة، ليس في بعدها الظاهر المباشر فقط، ولكن أيضاً في تخمينها للفكرة الداخلية العميقة (العقل الجماعي الباطن) التي تشكل هذا الواقع الظاهر أو المتعين!
وليس مصادفة أن تقرير الأمم المتحدة السنوي للتنمية لعام 2019 جعل من المساواة قيمة أساسية وعليا في التنمية وفي إدارة وتوجيه الإنفاق العام والسياسات الاقتصادية والتنموية، وعاملاً محورياً في تفسير الفقر والفشل والصراعات السياسية والاجتماعية التي تجتاح العالم اليوم. ويؤكد التقرير أن الاضطرابات التي صعدت في أنحاء واسعة من العالم مردها إلى الشعور العميق بعدم المساواة، ما يؤدي أيضاً إلى اليأس والإحباط.
وقد أصبحت قدرة الناس كلهم تقريباً على تحصيل المعرفة وتداول الأخبار والمعلومات، فضلاً عن إنتاجها بشكل مستقل عن مؤسسات إعلامية كبيرة، عاملاً مهماً في إدراك وتقدير الحقائق ومتطلباتها. وفي حين درج العالم طوال قرون على تنظيم تداول المعرفة والأخبار بأدوات ومؤسسات مركزية، مثل وسائل الإعلام (كالصحف والإذاعات والمؤسسات التعليمية والإرشادية)، وتشكلت تبعاً لذلك طبقات ومصالح تنظم المعرفة وتديرها على النحو الذي يعكس قيم وأهداف ومصالح المجتمعات والأمم وطبقاتها النافذة على مدى القرون.. فقد تحولت الشبكية إلى موارد مشاعية متاحة للتداول والإنتاج لكل إنسان، ويمكن أن تصل إلى كل شخص في أي مكان من العالم.
وفي هذه الفوضى الناشئة بسبب القلق على القيم والمصالح والتطلعات الجديدة للمشاركة والمساواة ورفع الظلم وتحسين الحياة وتحقيق أهدافها، لا يملك العالم سوى تكريس الفردية والمساواة كقيمة عليا حارسة للقانون والأخلاق والقيم والمصالح والأعمال، بدلاً من النخب والمجتمعات والمؤسسات التنظيمية والإرشادية.
وبالطبع، فإنه تحول كبير وجوهري في تنظيم المجتمعات والأفراد والمصالح والأعمال، ففي حين كانت النخب والقيادات الاجتماعية قادرة على تكريس السلام والاستقرار وتملّك الخبرات والموارد الكافية لعمليات التنظيم والضبط الاجتماعي والأخلاقي وتطبيق القانون.. لكنه تجربة مصحوبة غالباً بعدم المساواة والانحياز. وبالمقابل، فإن الجموع والأفراد والجماعات والطبقات التي تشعر بالتهميش والفقر والحرمان وعدم المساواة، تملك إيماناً عميقاً بضرورة المساواة. لكنها أيضاً تفاعلات وعمليات اجتماعية وسياسية مصحوبة بالفوضى والتجاوزات على القوانين والقيم المنظِّمة للأسواق والمؤسسات والمجتمعات.
ومهما يكن من أمر، فإن الثورة الصناعية الرابعة تمضي بلا استئذان، وتفرض تحدياتها وعيوبها ومشكلاتها كما إيجابياتها وفرصها وعطاياها.