في مقالة فكرية أخيرة له في مجلة ‏Foreign Affairs ‬الشهيرة، ‬حذّر ‬الكاتب ‬والمنظر ‬الأميركي ‬فرنسيس ‬فوكوياما، ‬صاحب ‬كتاب «‬نهاية ‬التاريخ ‬والإنسان ‬الأخير»، ‬من ‬أن ‬جائحة ‬فيروس ‬كورونا ‬المستجد ‬قد ‬ينتج ‬عنها ‬تراجع ‬نسبي ‬للولايات ‬المتحدة ‬خلال ‬الأعوام ‬المقبلة، ‬خاصة ‬أنها ‬تعاملت ‬بشكل ‬أخرق ‬مع ‬الجائحة ‬وتحدياتها، ‬مما ‬أدى ‬إلى ‬تراجع ‬هيبتها ‬على ‬نحو ‬كبير. ‬وفي نظره، أن الرئيس ‬الأميركي ‬أحدث انقساماً ‬داخلياً، ‬بدلاً ‬من ‬تعزيز ‬الوحدة، ‬وعمد ‬إلى ‬تسييس ‬توزيع ‬المعونات، ‬وترك ‬مسؤولية ‬اتخاذ ‬القرارات ‬المهمة ‬لحكام ‬الولايات، ‬بينما ‬شجع ‬الاحتجاجات ‬ضدهم ‬على ‬نظام ‬الصحة ‬العامة، ‬وهاجم ‬المؤسسات ‬الدولية، ‬عوضاً ‬عن ‬تحفيزها.. ‬وأن ذلك ‬قد ‬يقود ‬إلى ‬تآكل ‬النظام الليبرالي ‬العالمي ‬وعودة ‬الفاشية ‬في ‬أرجاء ‬المعمورة. ‬ثم ‬إن ‬تعامل ‬واشنطن ‬مع ‬الجائحة ‬قد ‬يفضي ‬أيضاً ‬إلى ‬ولادة ‬جديدة ‬للديمقراطية ‬الليبرالية، ‬التي ‬يصفها ‬فوكوياما ‬بأنها ‬نظام ‬أربك ‬المتشككين ‬مرات ‬عديدة؛ ‬لما ‬أظهره ‬من ‬مرونة ‬وقدرة ‬على ‬التجدد.
وتوقف الكاتب في مقالته حول مفهوم «الأزمات الكبيرة» وما لها من عواقب وخيمة غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية، وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا، عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف. ‬كما ‬تسببت ‬هجمات ‬11 ‬سبتمبر ‬2001 ‬في ‬تدخلين ‬أميركيين ‬فاشلين. ‬
وتحدث ‬الكاتب ‬عن ‬النزعات ‬القومية ‬والانعزالية ‬وكره ‬الأجانب ‬والهجوم ‬على ‬النظام ‬العالمي ‬الليبرالي.. ‬وهي نعرات متزايدة منذ سنوات، ‬وستفاقمها ‬جائحة ‬كورونا. 
ومن التخمينات الاستراتيجية التي دافع عنها فوكوياما، تصاعد النبرة القومية التي ستؤدي إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي، فربما يرى بعض القادة في المشاحنات مع الأجانب وسيلةً مفيدةً لصرف الأنظار عن السياسة الداخلية، وقد يغريهم ضعف معارضيهم، أو انشغالهم بالجائحة، لزعزعة استقرار من يستهدفونهم، أو لخلق واقع جديد على الأرض.
صحيح أن النظام الدولي الليبرالي سيصبح أقل ليبرالية وأقل نظاماً، لكن يقيني أن تراجع دور الولايات المتحدة هو إحدى خصائص العالم الحالي أيضاً، وليس المستقبلي فحسب. فهذا التراجع قد بدأ بالفعل، والأزمات القديمة التي كانت تخلق العجائب في بعض الأحيان، لم نعد نراها مع جائحة كوورنا تخلق إلا المزيد من الأنانية الوطنية، والحمائية التجارية، والقيود والسيطرة على حركة الناس. وبالطبع، لا يمكن إيقاف العولمة، لكن سيتم إدخالها في إطار ضيق. 
وقد لاحظنا هذه الأنانية بين إخوة الأمس داخل الاتحاد الأوروبي. ومؤخراً، وفي إطار اجتماع المجلس الأوروبي الذي ناقش فيه قادة الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد، خطط المفوضية الأوروبية لموازنة سبع سنوات بقيمة 1.1 تريليون يورو، وخطة تعافٍ بقيمة 750 مليار يورو.. حيث عارضت دول «الرباعية المقتصدة» (هولندا والدنمارك والنمسا والسويد) بشدةٍ هذا الحجم الهائل من الديون المشتركة لدعم الدول الأكثر تضرراً، ودعت لتخصيص التمويل في شكل قروض، بدلاً من المنح.
ستحتفظ أميركا بالقوة العسكرية المهيمنة، أما بالنسبة للقوة الاقتصادية، فسيتعدد فيها اللاعبون الأقطاب، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة في التزايد. والذي غاب في مقال فوكوياما هو مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، الذي يشمل أطرافاً فاعلة ليست دولاً، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونياً، والإرهابيين وتجار الأسلحة، والقراصنة الذين يهددون الأمن الإلكتروني، وتحديات أخرى مثل الأوبئة وتغير المناخ. وعلى هذه الرقعة السفلى، نجد أن القوة منتشرة على نطاق واسع، ومن غير المعقول الآن التحدث عن الأحادية القطبية أو السيطرة المنفردة. وأظن أن هذه الجوانب سيكون من أمرها ما يكون، وستتربع عليها الصين وروسيا، لتجعلا من هذه الرقعة رقعة مؤثرة على النظام العالمي الجديد، وذلك بمفاتيح أخرى. وإن هي لم تحسن إدارة الأزمة وبناء المستقبل الإنساني الجديد، فإن الفشل في هذا التحدي سيؤدي إلى أزمات صعبة في النظام العالمي الجديد.