فرضت جائحة كورونا – ولو مؤقتاً – أنماطاً جديدة من الاستهلاك والادخار والاستثمار، مما تمخض عنه نتائج إيجابية وأخرى سلبية على النمو، وعلى الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، حيث تبرز هنا بعض التساؤلات المهمة، التي تكمن في كيفية الاستفادة من هذه التغيرات النمطية، وتسخيرها لخدمة النمو في فترة ما بعد كورونا، خصوصاً وأن الأنشطة الاقتصادية بدأت في العودة التدريجية.
أحد أهم هذه القضايا، التي ستترك تبعات على الأوضاع الاقتصادية، هي تلك المتعلقة بالعلاقة ما بين الادخار والاستهلاك، إذ من المعروف أن ثقافة الاستهلاك الخليجية تعتبر ثقافة استهلاكية بذخية، لا تراعي الجوانب المالية للأفراد والاقتصاد، من منطلق «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، وإذا كانت هذه الثقافة السائدة في فترة العقود الماضية، فإنها لم تعد صالحة للفترة الراهنة، ليس بسبب تداعيات كورونا فحسب، وإنما بسبب التغيرات الهيكلية في الاقتصادات الخليجية، والاقتصاد العالمي عموماً، فالعائدات النفطية التي تشكل ما نسبته 80-90% من دخل الموازنات السنوية، تتعرض وستتعرض مستقبلاً لهزات وتقلبات عنيفة ستؤثر على النمو الاقتصادي، كما أدت التغيرات التقنية والذكاء الاصطناعي إلى تراجع كبير في فرص التوظيف، وتقلص في الوظائف في القطاعين العام والخاص.
هذه التغيرات السريعة تتطلب إعادة النظر في العديد من الممارسات السابقة، بما فيها نمط العلاقة بين هذين المكونين، فالفلسفة السابقة الخاصة بثقافة الاستهلاك الخليجية لن تعمل مستقبلاً، وستتسبب في عواقب مؤلمة، إذا لم يعيد الأفراد النظر في نمطهم الاستهلاكي، باتجاه إيجاد علاقة صحيحة بين الادخار والاستهلاك، خصوصاً وأنه على المستوى الرسمي حققت دول مجلس التعاون الخليجي تقدماً مهماً، باتجاه إيجاد علاقات صحيحة بين مكونات الاقتصادات الوطنية، بما في ذلك الإصلاحات المالية.
لقد وفرت جائحة كورونا لفئات واسعة من العاملين مبالغ ادخارية كبيرة، وبالأخص للعاملين في القطاع الحكومي الذين لم تخفض رواتبهم، في حين تلقوا إعانات من الدولة على شكل تخفيض في أسعار الخدمات، كالطاقة الكهربائية والمياه، بالإضافة إلى الدعم الكبير للقطاعات الاقتصادية، من خلال التسهيلات التي قدمت للقطاع الخاص، بما فيها القطاع المالي والمصرفي، في حين انخفض إنفاق الأسر بصورة كبيرة بسبب الإغلاق والعزل والتباعد الاجتماعي، مما ساهم في زيادة الادخار ولو إلى حين.
السؤال المهم يتمحور الآن حول كيفية إنفاق مستويات الادخار العالية لدى الأفراد، والتي تراكمت على مدى الأشهر الماضية؟ هل ستحدد علاقة جديدة وصحيحة بين الادخار والاستهلاك؟ أو ستعود حليمة إلى عادتها القديمة؟ الملاحظ للأسف أنه بمجرد أنه تم فتح الاقتصاد تدريجياً عادت بعض أنماط الاستهلاك البذخي بصورة مبالغ فيها، من حيث المبدأ الاستهلاك عامل اقتصادي مهم ومطلوب، وهو محرك رئيسي للأنشطة الاقتصادية، إلا أن ما نقصده هنا الاستهلاك البذخي.
وبالإضافة إلى التحسب للمستقبل، فإن هناك دوراً وطنياً يتمثل في المساهمة في زيادة السيولة المحلية لتنشيط الاقتصاد المحلي، فالدولة قامت بواجبها في هذا الجانب، وقدمت دعماً قوياً من خلال توفير السيولة لكافة القطاعات الاقتصادية، والتي بلغت 300 مليار دولار في دول المجلس، حيث ساهم ذلك في إنقاذ الكثير من المؤسسات من الانهيار.
لذلك، فإن زيادة الادخار من خلال إيجاد علاقة صحيحة بين الاستهلاك المعتدل والادخار من قبل أفراد المجتمع، مع الاستفادة من السيولة التي توفرت في الفترة الماضية، ستساهم في تنشيط القطاعات الاقتصادية والتجارية بفضل الاستهلاك الصحيح أولاً، وتوفير السيولة اللازمة لزيادة الاستثمارات وتجاوز تداعيات كورونا، وخلق مجالات استثمارية وفرص عمل جديدة ثانياً، مما يعني تحسين مستويات المعيشة، هذه هي إحدى المهمات الصعبة التي تواجه المجتمعات الخليجية في فترة ما بعد الجائحة، من خلال إعادة النظر في ثقافة الاستهلاك ذاتها، وهذه فرصة متاحة بفضل التعليم والوعي الذي وصل إليه المواطن الخليجي.