لم يجد المهتمون بالاستراتيجيات الدفاعية عموماً، إجابة عن السؤال الملح حول قيمة الأمن مقارنة مع التكلفة، فيرى البعض أن التكلفة شيء غير مهم مقارنة مع العوائد الفعلية التي يمكن للأمن تحقيقها، ويرى البعض الآخر أن الحديث عن الأمن والسيادة، مجرد ترف لا يستدعي تسخير إمكانيات الدولة كلها، والاستدانة أحياناً، مهما بلغت شدة التهديدات! بينما يرى البقية أن تكلفة الأمن يجب أن تكون على قدر الإمكانيات فقط، ويجب عدم تجاوزها على الإطلاق.
من المتفق عليه، وحسب «ديفيد جارنم» في كتابه «أساسيات الأمن القومي» أن هذه الأساسيات «ترتكز على الحفاظ على أمن الدولة وحماية حدودها ضد التهديدات الخارجية وحماية أراضيها وشعبها من التهديدات الأمنية الداخلية، وتسعى إلى تحقيق الرخاء والاستقلال الاقتصادي»، فيبدو معقولاً أنه يجب عدم النظر إلى تكاليف الأمن القومي باعتباره سبباً في استنزاف الدولة بأي شكل، بل باعتباره الاستثمار الأول الحقيقي الذي يساهم في النمو الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى ما يحققه من نتائج مباشرة في حماية الوطن بإبعاد أية تهديدات، مهما قلّ أو كبر شأنها.
الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي المتكامل، يحتاج بلا شك، إلى الأمن العلمي الذي يستحث طاقات الشباب وقدراتهم الإبداعية لرؤية المستقبل والمشاركة في صنعه، وتوظيف قدراتهم وإمكانياتهم والاستثمار فيها، كما فعلت الإمارات في «مسبار الأمل» وزيارة المريخ، كأول إنجاز عربي في المجال، وهذه التكلفة أيضاً، ليست شيئاً يذكر، مقابل ما تم تقييمه سلفاً، في الخطط والاستراتيجيات، من حجم النتائج التي تحقق العوائد المباشرة وغير المباشرة المتوقعة.
إذاً، لا يمكننا فعلياً حساب التكلفة الحقيقية للأمن القومي، فخلال التخطيط الإستراتيجي، يجب أيضاً حساب تكلفة البنى التحتية المتماسكة في التعليم والصحة والبيئة والعلوم والتكنولوجيا وغيرها، باعتبارها روافد أساسية في الاستثمار الشامل الذي يؤدي إلى بناء المظلة الأمنية القومية، والتي تؤدي أيضاً، بجوار الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي، إلى ترسيخ مفهوم سيادة الدولة، فتصبح القيمة المحتملة لتكلفة بناء الأمن القومي تعادل قيمة تلك السيادة المُحكمة التي تهب الدولة مكانتها وقوتها ومنعتها.
كذلك، لا يتوقف الأمن القومي عند تعزيز القدرات الدفاعية العسكرية فقط، بل يجب أن يتعداه، كما يحدث في عدد من الدول، إلى تعزيز القوة الهجومية وجعلها قادرة على حسم أية معركة تهدد مصالحها حتى البعيدة عن حدودها الطبيعية، ليس شرطاً استخدامها ولكن توافرها شرط أساسي، فحسب البنتاغون، فإن استراتيجية الأمن القومي الأميركي تقوم على تعزيز القوة النووية الأميركية القادرة على ضرب أي هدف حول العالم خلال ساعة واحدة.
يقول فخامة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، العسكري والسياسي المخضرم: «إن الأمن القومي لا يقدر بمال»، والسبب ليس لأنه يعرف أن دولاً عظمى مثل الولايات المتحدة مثلاً، تنفق على الأمن القومي أكثر مما تنفقه دول كثيرة مجتمعة، ولكن لأنه يعلم بدقة متناهية، أنه لا يمكن تحقيق الرخاء الاقتصادي في ظل التهديدات والفوضى والإرهاب، وأنه لا بد من السلام والأمن والاستقرار، مهما بلغت تكلفته، لدفع عجلة النمو والتطور وتحقيق العوائد المجزية.
دولة عريقة بحجم مصر، لا ترى الأمن القومي لديها متعلق بالأمن الداخلي وحماية حدودها فقط، بل ترى نفسها، وكما يراها معظم العرب، مسؤولة عن الأمن القومي العربي، خاصة في منطقة شمال أفريقيا، كما يحدث حالياً، حين تهجمت قوى الظلام على ليبيا، تريد سلبها واحتلالها، فانبرى المصريون، وبتفويض برلماني وشعبي ليبي وعربي، وبدعم من دول في الخليج، للدفاع عن ليبيا، والتفكير بتكلفة واحدة فقط هي تكلفة ضياع ليبيا وسقوطها بيد المحتل العثماني والآثار المدمرة التي قد تلحق بذلك.
أهم ما يحتاجه الأمن القومي الليبي، وبصورة عاجلة، لا جدال فيها، هو وحدة الأرض الليبية بدرء التهديدات المستفزة، ووقف نقل المرتزقة الإرهابيين، وتخليص العاصمة طرابلس من الميليشيات المسلحة الإرهابية، والتسوية السياسية التي ستسهم بقوة لعودة الأمن والاستقرار وتحريك عجلة النمو الاقتصادي، ومهما بلغت تكلفة ذلك، من الليبيين، أو من الدول العربية الداعمة والمساندة، فإنها تعتبر قليلة أمام الهدف الأسمى، والنتيجة المتوخاة.
لا يتكئ أحدهم بعد الآن، في مجلسه، ويتحدث ببلاهة عن تكلفة الأمن، ويجدف بعيداً دون علم، ويتجاهل هذه النعمة العظيمة التي منحته الحماية والهدوء والاستقرار، وأبعدت عنه أية تهديدات، وجعلته يعيش في رخاء وسلام.