في الماضي، وحتى خلال المائة عام الأخيرة، كانت الأهداف والاستراتيجيات الوطنية لإمبراطوريات ودول العالم، من الأسرار التي يجب عدم الإعلان عنها أو تسريبها، ولكن التطور التكنولوجي، وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وظهور الإنترنت، وسباق التنافس نحو المستقبل، غيّرت وجه العالم، وبات الإعلان عن الخطوط العريضة للأهداف الوطنية الكبرى، وترسيخها في ذهن المجتمع الدولي، من أسباب النجاح، الذي يمهّد الطريق لإنشاء العلاقات والتطور وتحقيق تلك الأهداف، بيسر وسهولة.
لنتفق أولاً، أن مفهوم الدولة، لا يعني قطعة الأرض الجغرافية التي تحوز مقعداً في الأمم المتحدة، إنما هو مفهوم شامل، يتعدى ما وصل إليه المفكر الألماني «ماكس فيبر» بأنها «منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين»، ويتجاوز ما ذهبت إليه «موسوعة لاروس الفرنسية» أن الدولة «مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة»، بل إن الدولة، وكما وردت في «اتفاقية مونتيفيديو» بأنها «مساحة من الأرض تمتلك سكاناً دائمين، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى».
بشكل أو بآخر، وحتى لا نضطر إلى إعادة تعريف الدولة، في ضوء المتغيرات العالمية المدهشة، بأنها «الكيان السياسي الذي يمتلك السيادة على الإقليم الجغرافي المحدد والمعترف به دولياً» فإن أهداف هذا الكيان، تقوم أساساً على الاستقرار الداخلي والخارجي، والنمو المتواصل على الصعد كافة، سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكذلك في شبكة العلاقات الدولية ومدى عمقها ومتانتها وجدواها الحقيقية، إضافة إلى قدرتها العسكرية والأمنية القادرة على حمايتها، بشكل دائم، دون أيّ شكّ أو تشكيك.
بتسليط الضوء على الأهداف والاستراتيجيات المُعلنة لنماذج بعض الدول، فإنه يمكن فهم تلك الاستراتيجيات في ضوء الاستقرار والقبول والنمو الداخلي، في الظروف العادية والاستثنائية، فالدول التي تتمتع باستقرار داخلي كالصين وأميركا والإمارات والسعودية ودول في أوروبا مثلاً، تتحرك أهدافها الاستراتيجية الخارجية بتركيز ليس له مثيل، وعلى الصعد كافة، أما الدول التي تشهد انهياراً سياسياً واقتصادياً داخلياً، كتركيا وإيران، فإن أهدافها الاستراتيجية المعلنة وغير المعلنة أيضاً تتسم بالفوضى والتخبط، فكيف يمكن مثلاً قراءة الاستراتيجيات التركية في ظل المزاجية والشعبوية العاطفية التي تدفع بالرئيس التركي لحرب ومواجهة في ليبيا، بينما يتهاوى الداخل التركي على إيقاع التراجع الاقتصادي الملفت والضغوط السياسية والأمنية التي ولدها العنف والقمع السلطوي الداخلي في تركيا؟
يقولون إن «الحاجة أم الاختراع»، وهذا صحيح، ولكن هل تدفع الحاجة لتغطية آثار التخبط الداخلي لاختراع حروب خارجية؟ الفحص والتقييم يقولان إن الأفكار المتميزة تولد في أوقات النجاح أيضاً، وأنه لا يمكنك وضع استراتيجيات شاملة عميقة، إذا لم تستند إلى منظومة نجاح وإنجازات حقيقية كما تستند إلى القدرات والإمكانيات وتقديراتها الدقيقة، وأن منظومة النجاح هي البيئة المستقرة في الاتجاهات كافة، دون التبجح، كما يفعل البعض، بأن هذا النظام ديمقراطي والآخر شمولي أو ريعي، فهذه حجج واهية، لأن الصورة النهائية لحال الدولة، بغض النظر عن نوعية نظامها، هي الأساس في التقييم، فإذا تحققت العدالة الاجتماعية مثلاً، وهي معيار التقييم الأول، يصبح الحديث عن نوع النظام لوضع وتحقيق الاستراتيجيات غير ذي جدوى، فكما نرى اليوم، كثير من الأنظمة الديمقراطية المزعومة، تغوص في وحل الفساد والقمع والتعدي على الحريات بطريقة فجّة ملتوية.
الاستراتيجيات المتكاملة لا تحتاج إلى اختراع فزاعات مكشوفة، فالقوة الاستراتيجية هي القدرة على ضمان الاستقرار والسيادة والنمو وإحكام شبكة العلاقات الخارجية، بالوسائل الدبلوماسية الذكية، ومعالجة التحديات بحكمة وموضوعية، كما فعلت وتفعل الإمارات، منذ تأسيس الاتحاد، وحتى يومنا هذا.
الإمارات، لا تُخفي استراتيجياتها وأهدافها بل تعلنها بالأفعال التي بلغت أقاصي الدنيا، الأهداف العظمى التي تستند إلى الإرث التاريخي القويم ورؤى العدل والتسامح، كما تستند إلى الاستقرار الداخلي المتين والمحكم، لذلك لم يكن صعباً لديها، أن تنافس كبرى دول العالم، في مجالات الحكومات الذكية واستشراف المستقبل، وفي تقديم المساعدات الإنسانية، للدول المنكوبة والمحتاجة، قبل وخلال جائحة كورونا، فبات تحقيق واحد من أهدافها مثلاً، بأول إنجاز عربي من نوعه، بزيارة المريخ، وإطلاق مسبار الأمل الذي تم تخطيط استراتيجيته عام 2006، مهمة ليست مستحيلة.