استكمالاً لمقالة الأسبوع الماضي، الخاصة بأهمية خطوة «مسبار الأمل»، فإن هناك العديد من التوجهات العالمية الحديثة، والتي تؤكد الانتقال السريع «لاقتصادات الفضاء»، والذي يترافق مع التطور الهائل في التكنولوجيا الرقمية، إذ يتم الحديث حالياً، بصورة متزايد، عن الاقتصاد الجديد، والذي سيتم بموجبه إعادة هيكلة اقتصادات الدول، بل إعادة اصطفاف جديد للقوى الاقتصادية المؤثرة في العالم، بدليل التنافس والتجاذب الجاري حالياً بين الولايات المتحدة والصين.
هذا التحول المهم والخطير، في نفس الوقت، لا يقف عند الحديث، وإنما تجاوزه إلى اتخاذ خطوات عملية، فالوقت لا يرحم، والزمن لا ينتظر العاجزين والمترددين، فبالإضافة إلى الصراع الدائر بين أكبر اقتصادين عالميين، وبالأخص حول الهيمنة على الاقتصاد الرقمي ومؤسساته «اقتصاد الفضاء»، فإن الاتحاد الأوروبي وروسيا يحاولان بدورهما اللحاق بهذين العملاقين، فالمفوضية الأوروبية خصصت 15 مليار يورو لدعم شركات الاقتصاد الفضائي، كما سمحت لشركاتها، في الأشهر القادمة، بتجربة برمجيات جديدة لاقتصاد الفضاء والتجارة الإلكترونية، والتي يتوقع أن تدر على دول الاتحاد 325 مليار يورو في سنوات العقد الحالي.
ومع ذلك، يبدو الفارق شاسعاً بين الولايات المتحدة ومنافسيها، فالشركات الأميركية، مثل «سبيس أكس» و«بلانيت لابس»، تعتبر الأنشط في هذا المجال، وبالأخص ما يتعلق بإطلاق الأقمار الاصطناعية، فالأولى أطلقت مؤخراً 60 قمراً اصطناعياً، ليبلغ عدد أقمارها حتى الآن 182 قمراً، وهي تحاول الوصول إلى 11 ألف قمر تدور حول الأرض خلال السنوات العشر القادمة، في حين تدير الشركة الأخرى 150 قمراً اصطناعياً، علماً بأن مجموع الأقمار الاصطناعية التي تجري في الفضاء حالياً يبلغ 2500، سيرتفع مع نهاية العقد الحالي إلى 50 ألف قمر اصطناعي.
يشير ذلك بوضوح إلى أن طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية ستتغير بصورة جذرية في المستقبل القريب، ولنأخذ، على سبيل المثال، خدمات «الإنترنت» والتي من خلالها ستتم إدارة الكثير من المرافق الاقتصادية والحياتية، وبالأخص بعد التفعيل الواسع لنظام 5G حالياً، وكذلك 6G بعد سنوات قليلة، حيث يمكن الإشارة إلى بعض التحولات الطاغية والتي ستكتسب بعداً عالمياً، فخدمات «الإنترنت»، على سبيل المثال، تحتكرها حالياً شركات الاتصالات المحلية بأسعار باهظة، تلك الخدمات والأسعار التي ستكون مهددة قريباً، فالشركات الأميركية التي أشرنا إليها آنفاً، ستقدم خدمات إنترنت دولية من خلال 66 قمراً اصطناعياً منخفضاً، يتيح الاشتراك في خدمات الإنترنت في أي بلد، مع إمكانية استخدام الإنترنت في أي موقع وفي أي منطقة من العالم، حيث يدور الحديث عن تكلفة بسيطة تبلغ 80 دولاراً فقط في العام، كرسوم اشتراك في الخدمة.
يمثل ذلك نقلة نوعية ستؤدي إلى إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، مع سرعة التحول للاقتصاد الفضائي، حيث سيكون من الصعب وضع قيود أو موانع أمام عمل الشركات الفضائية التي تعمل من خلال روابط أقمارها الاصطناعية، ولا تحتاج لرخص وخدمات أرضية في الدول التي تعمل بها، أي أن الحدود الجغرافية لا تعنيها!
ذلك يعني، من بين أمور أخرى، انتقال للأعمال والثروات والوظائف لبلدان «الاقتصادات الفضائية»، ما يفسر بعض ظواهر التنافس الحالي، والذي لم يستثن دولاً صغيرة ولكنها متقدمة تقنياً، كإسرائيل التي لديها اهتمام كبير باقتصاد الفضاء.
بالتأكيد، المنافسة ستكون شديدة وغير متكافئة، والخيارات محدودة، إلا أن الوقوف إلى جانب الطريق، حيث تحاول بعض البلدان والقوى العاجزة تثبيتنا فيه، غير مجدٍ أبداً، إذ أن هناك طريقاً آخر يتمثل في الطموح واستبعاد المستحيل، فالوضع يشبه، إلى حد بعيد، استخدام المواصلات العامة، كالمترو أثناء الذروة في الصباح والمساء، فإذا ما وقفت على جانب الطريق بانتظار حجز مكان لك، فإنك لن تصل إلى عملك في الوقت المحدد، وسيتم فصلك في نهاية المطاف، أما إذا استخدمت قوتك وإمكاناتك، ضمن حشود الركاب في وسط الزحام، فسوف تجد لنفسك مكاناً دون شك، وستصل إلى غايتك في الموعد المحدد، وبالتالي ستحافظ على عملك ومصالحك، وستسير ضمن الركب العالمي بنجاح.
*مستشار وخبير اقتصادي