على الرغم من حساسية الظروف الصحية العالمية، استطاعت المملكة العربية السعودية تنظيم موسم ناجح وآمن للحج شارك فيه حجاج من شتى بقاع العالم الإسلامي. وليس بالجديد على السعودية النجاح في تجربة تنظيم الحج، على الرغم من كثرة وخطورة الأزمات التي عرفتها المنطقة، من حروب وصراعات إقليمية وأزمات سياسية حادة. ولقد انطلقت دوماً الدولة الراعية لأقدس بقاع الإسلام من مبدأ النأي بشعيرة الحج عن تجاذبات السياسة، فاعتمدت نهج تحييد الركن الخامس من أركان الدين عن شوائب السياسة، رغم محاولات دول وأطراف أخرى إقحام الاعتبارات السياسية في تسيير الحج بذرائع واهية. 
ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد صراع محدود حول خطط وسياسات تسيير الحج، والحال أن السعودية قد وضعت نظاماً دقيقاً وفعالاً لإشراك مختلف حكومات العالم الإسلامي في تنظيم الحج، وإنما بصراع جوهري حول مرجعية العالم الإسلامي الروحية والاستراتيجية. 
ودون الخوض في الخلفيات البعيدة لهذا الصراع وتجلياته الإقليمية البارزة، نكتفي اليوم بالوقوف عند الطموح التركي، المدعوم من تنظيمات الإسلام السياسي الحليفة لأنقرة، إلى انتزاع هذه المرجعية الروحية الاستراتيجية.
إن هذا الطموح يتحدد وفق ثلاث اتجاهات شديدة الترابط، هي: إعادة الاعتبار للخلافة العثمانية بصفتها آخر تجليات «الدولة الإسلامية الموحدة للأمة»، واعتبار الدولة التركية الحالية الامتداد التاريخي للخلافة والقادرة على أداء دورها وفق المتطلبات الراهنة، واعتبار أن محور الإسلام السني قد انتقل من العالم العربي إلى تركيا.
وبخصوص النقطة الأولى، لسنا نحتاج إلى الرجوع للأعمال التاريخية المختصة للتدليل على أن الإمبراطورية العثمانية، رغم سيطرتها على جل أقاليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم تكن في عمقها دولة «خلافة إسلامية» وإن رفعت هذا الشعار في آخر مراحلها (عهد السلطان عبد الحميد الثاني)، رغم أسطورة تَسمِّي السلطان الغازي «سليم الأول» بأمير المؤمنين، في إطار مشروعه للسيطرة على المشرق العربي. وكما تبين أبحاث عالم الاجتماع التركي «شريف ماردين»، فقد قامت الدولة العثمانية على نظام إمبراطوري غير ديني، يرتكز على تحكم سلطة بيروقراطية عسكرية في القلب الأوروبي (غير المسلم) للدولة، مع منح الأطراف هامش استقلال واسع من خلال العلاقة المرنة مع القيادات المحلية، على اختلاف انتماءاتها الدينية. وفضلاً عن كون هذه الدولة لم تكن إسلامية التوجه، رغم توظيفها للدين في حروبها الخارجية، فإنها لم تنجح في بسط سيطرتها على عدد من أهم مناطق العالم الإسلامي، مثل شبه القارة الهندية، والبلاد الفارسية، والمغرب الأقصى، وبلاد السودان الغربية (غرب أفريقيا). 
لقد كانت الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر بدايةً كبرى لمشروع عربي إسلامي لتحرير العرب من قبضة هذه الإمبراطورية، في تناغم مع طموحات مماثلة تمت في مصر وتونس واليمن للخروج من قبضة الآستانة، قبل أن تتشكل الدعوة الاستقلالية العربية في بدايات القرن العشرين. 
أما الدولة التركية الحالية التي وضع أسسها الزعيم القومي العلماني «مصطفى كمال أتاتورك»، ففي حين أن أدبيات الإسلام السياسي كانت تنظر إليها كدولة تغريبية معادية للدين، فإنها تحولت بعد سيطرة «حزب العدالة والتنمية» إلى دولة الخلافة الجديدة، مع أن مرجعياتها الدستورية والقانونية لم تتغير، كما أن هويتها الاستراتيجية وعلاقاتها الخارجية (بإسرائيل وحلف شمال الأطلسي) لم تتبدل. وعلى عكس الصورة السائدة، لم تكن علمانية أتاتورك محايدة تجاه الحقل الديني، على غرار العلمانيات الغربية، وإنما سعت دوماً إلى سيطرة الدولة على الحقل الديني وتوظيفه في رهانات الهوية الداخلية وفي الأبعاد الاستراتيجية، مع تقليم أظافر المؤسسة الدينية واحتوائها، وهو النهج نفسه الذي يتبناه أردوغان حالياً، بقضائه على أهم مكونات الحقل الديني التقليدي (الإسلام الطرقي الصوفي الذي تمثله جماعة غولن) واعتماده سياسة توسع وتدخل نشطة في العالم العربي باسم الورقة الدينية. الفرق الوحيد بين سياسة أردوغان ومن سبقه، هو اعتماده خط التحالف مع جماعات الإسلام السياسي العربية لتسهيل اختراق العالم العربي والتدخل في شؤونه الداخلية، بدعم من تشكيلات اليمين القومي التركي المتطرف.
وفي هذا السياق، ندرك بوضوح سياسة الاستهداف الصريحة ضد السعودية، التي هي المحور الروحي للعالم الإسلامي بمختلف أطيافه، وقد تبنت، خصوصاً منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز للسلطة، خطاباً منفتحاً وتصالحياً مع مختلف الفرق والطوائف الإسلامية، مع حركة إصلاح اجتماعي داخلي نوعي، كما أنها في الوقت نفسه محور منيع للعالم العربي، بسعيها مع قوى الاعتدال العربية الفاعلة إلى صد مخاطر العدوان والاختراق الأجنبي، التي تعاني منها البلدان العربية.
ليس من المستغرب إذن، في ضوء هذه المعطيات، أن تشكل السعودية هدفاً لجماعات الإسلام السياسي الراديكالية وتركيا الداعمة لها، وأن يكون شعار المرجعية الإسلامية هو الرهان الأساسي لهذه السياسة العدائية الواضحة.

*أكاديمي موريتاني