قبل عقد ونصف من الزمان، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يتحدث برؤيةٍ استشرافية عن ماذا سيكون الوضع حين تُصدر الإمارات آخر برميل نفط؟ وهل سنكون سعداء أم لا؟ وأكد أنه لا يرى سوى السعادة، والإعلان عن بدء التشغيل لأول مفاعلٍ في محطة نووية سلمية في العالم العربي بأسره.
القفزات الكبرى للدول والأمم باتجاه التوجه للمستقبل لا تحدث صدفةً ولا حظاً، بل هي مشاريع عملٍ تقودها رؤى استراتيجية وتعترضها العقبات التي يذللها القادة والعاملون بكل جدٍ واجتهادٍ، وهي كذلك نتيجة لقيمة الدولة وعلاقاتها الدولية القوية واقتصادها المزدهر وشراكاتها الكبرى، وهكذا كان في قصة نجاح الاستثمار الإماراتي طويل المدى في الطاقة النووية السلمية والطاقة النظيفة.
في سنةٍ تعتبر من أسوأ السنوات في التاريخ البشري الحديث، حيث تفشى فيروس كورونا وغيّر العالم وقطّع أوصاله ومواصلاته، وفرض الحظر على غالب البشر، ولم يزل يطرح التحديات، وفي أقل من شهرٍ تطرح الإمارات نجاحين وإنجازين تاريخيين، الأول إطلاق مسبار الأمل كأول مسبارٍ ترسله دولة عربية للكوكب الأحمر، والثاني الإعلان عن تشغيل مفاعل «براكة» النووي.
قيمة الدول والأمم لا تقاس بأرقام التواريخ بل بتراكم الإنجازات ولا بأعداد السكان بل بمستوى التعليم ولا بالشعارات الجوفاء بل بالرؤية والعمل، وقد عاش العرب طويلاً منذ عقودٍ على شعارات سببت التخلف والفقر والجوع من قوميةٍ وبعثيةٍ ويساريةٍ وإسلاموية، وكلها لم تسبب غير الخسارة.
أثبت التاريخ الحديث أن هذا هو زمن الدولة الوطنية الحديثة، زمن القيادة والإدارة والإنجاز، وأن هذا هو تحديداً ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ويبني مستقبل الدول والمجتمعات والأفراد.
المقارنة هي إحدى وسائل العلم والفهم، وحين اختارت الإمارات هذا المسار منذ أكثر من عقدٍ ونيفٍ من الزمان برؤية ثاقبةٍ وحكمةٍ صائبةٍ كانت في المنطقة دولٌ أكبر أو أغنى منها قد اختارت دعم الأصولية والإرهاب ونشر الفوضى والدمار، وتكثيف الكيد والمكر والغدر بالدول والشعوب العربية، وقد أصبحت تلك الدول عبرةً للمعتبر، تعيش اليوم بين عقوبات قاسية أو اقتصاد شبه منهارٍ، وتوسعٍ غير محسوب العواقب، أو عزلةٍ إقليمية واتهاماتٍ دولية وعنادٍ استراتيجي غير قابلٍ للفهم.
على الرغم من كل التحديات القائمة في العالم، فإن الإمارات قد سمّت هذا العام العجيب في تاريخ البشر الحديث «عام الاستعداد للخمسين»، التي ستكون العام القادم اليوبيل الذهبي لدولة الإمارات، ولأي مراقبٍ ومتابعٍ أن يتخيل حجم المنجزات القادمة، والتي ستكون نتيجةً طبيعيةً للمشاريع القائمة، وهكذا تفترق القيادات في الغايات والرؤى ما يسبب اختلاف المكانة والقيمة في العالم.
نجاحات الدول تفرض عليها -دائماً- تحدياتٍ جديدةٍ، لأنها تنقلها من مستوى إلى مستوى آخر أعلى وأفضل، وقد دخلت دولة الإمارات النادي النووي العالمي كأول دولة عربية تحقق هذا الإنجاز، وهو نادٍ له شروطه ومواصفاته وموازناته وحساباته، وهذا ما يفرض احتفالاً مستحقاً بحجم المنجز واستعداداً بنفس الحجم للتحديات الجديدة التي يفرضها الوضع الجديد.
النجاح عادة والإنجاز إدمان، ومن تعوّد هذا وأدمن ذاك، أصبح من الصعب التخلي عنهما أو الشبع منهما، والدول مثل الأفراد في جوانب متعددة وظواهر معروفة.
أخيراً، فالجغرافيا لها دورٌ مهمٌ في تحديد التحديات ورسم المنجزات وتحقيق الغايات، فدولةٌ تعيش في أوروبا تختلف عن دولة في أفريقيا على سبيل المثال، ومنطقة الشرق الأوسط واحدةٌ من أكثر مناطق العالم اضطراباً وتحدياتٍ، ففي هذه المنطقة يتقاطع التاريخ والجغرافيا، وتصطرع الهويات القديمة المتجددة وتتصادم الطموحات الاقتصادية، وهذا ما يزيد في حجم المنجز، ويعظم قيمة النجاح. وكل عامٍ وأنتم بخير.
*كاتب سعودي