أضحى أمن الإنترنت من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيوش ووزارات الدفاع التي تضع خططاً واستراتيجيات لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية، ومن ثم أمنها الداخلي، وأيضاً لمسألة السيادة وحماية الدول من عمليات التجسس. ونتذكر أنه في عهد الرئيس أوباما، وفي سابقة من نوعها، بادر القضاء الأميركي إلى محاكمة خمسة جنود صينيين بسبب «القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي». وهم جنود، وذلك حسب ما زعمت بعض التقارير الاستراتيجية الأميركية،. وقد اتهمتهم واشنطن بالاستيلاء، خلال الفترة بين عامي 2006 و2014، على أسرار تجارية لشركات أميركية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة، وغيرها. ومثّل الخروج العلني لكبار المسؤولين الأميركيين وتدخل القضاء الأميركي، دليلاً على الخطر الواضح لحرب جديدة لم تعهدها البشرية من قبل.
والتجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية الكلاسيكية، لكن هذه المرة تستعمل شبكات التجسس أدوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها، وتقع في مواطن لا تخطر على بال أحد.
وسمعنا منذ أيام قليلة، تصريح الرئيس الأميركي الذي أعلن فيه على متن الطائرة الرئاسية، أنه سيحظر استخدام تطبيق «تيك توك» في ‬الولايات ‬المتحدة، ‬بحجة الاشتباه ‬في ‬إمكان ‬حصول ‬عمليات ‬تجسس ‬عبره. وقال ترامب إنه سيتخذ إجراءات عبر استخدام صلاحيته لحالات الطوارئ الاقتصادية، أو عبر أمر تنفيذي. ‬‬وجاء القرار ‬بعد ‬مراجعة ‬أجرتها «‬لجنة ‬الاستثمارات ‬الخارجية ‬في ‬الولايات ‬المتحدة» ‬التي ‬تنظر ‬في ‬العقود ‬المتصلة ‬بالأمن ‬القومي ‬الأميركي. ‬وتملك اللجنة ‬صلاحية ‬إلغاء ‬عملية ‬استحواذ ‬تمت ‬الموافقة ‬عليها ‬في ‬الماضي، ‬وقد ‬حدث ‬أمر ‬كهذا ‬في ‬عام ‬2019 ‬مع ‬تطبيق «‬غريندر».
ويعرف تطبيق «تيك توك» رواجاً كبيراً لدى الشباب، خصوصاً بفضل تسجيلات الفيديو الطريفة التي تبث عبره، ويبلغ عدد مستخدميه الآن حوالي مليار شخص في العالم. وكانت شعبيته قد ارتفعت بعدما استحوذت «بايتدانس» على تطبيق «ميوزيكال.لي»، الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، في 2017 ودمجته بخدمتها الخاصة للفيديو.وإذا أصر الرئيس الأميركي على اتهاماته بحق التطبيق، فإن ‬ذلك ‬يدخل ‬في ‬إطار ‬المحددات ‬الحالية ‬لنوعية ‬التجسس ‬والحروب ‬التي ‬بدأت ‬تتغير ‬جذرياً ‬عما ‬ألِفناه ‬وعما ‬نظَّر ‬له ‬كبار ‬الاستراتيجيين ‬التقليديين ‬في مجال الحروب، ‬مثل الصيني ‬القديم ‬«صن ‬تزو»، ‬وكذلك الجنرال ‬البروسي ‬«كارل ‬فون ‬كلاوزفيت» ‬الذي ‬شبّه ‬الحرب ‬بمبارزة ‬على ‬أوسع ‬نطاق، ‬وقارنها ‬بصراع ‬بين ‬اثنين ‬من ‬المتبارزين، ‬ليستنتج ‬أن «‬الحرب ‬عمل ‬من ‬أعمال ‬العنف ‬يستهدف ‬إكراه ‬الخصم ‬على ‬فرض ‬إرادة ‬معينة»، ‬فالعنف ‬هو ‬الوسيلة، ‬والغاية ‬هي ‬فرض ‬الإرادة ‬على ‬الخصم. ‬أما ‬اليوم، ‬فمن ‬شأن ‬عمليات ‬التجسس ‬الإلكترونية، ‬أو ‬الهجمات ‬السيبرانية، ‬أن ‬تتعدى ‬ما ‬ألفناه ‬في ‬السابق، ‬وأن ‬تتسبب ‬في ‬وقوع ‬ضحايا ‬وخسائر ‬جسيمة، ‬جسّدها ‬الجزء ‬الرابع ‬من ‬سلسلة ‬أفلام ‬«داي ‬هارد»، حيث ‬نرى ‬الشرطي ‬جون ‬ماكلين (‬بروس ‬ويليس) ‬في ‬حرب ‬ضروس ‬مع ‬نوع ‬جديد ‬من ‬الهجمات ‬الإلكترونية، ‬يبدأ ‬بتعطيل ‬إشارات ‬المرور، ‬مما ‬يسبب ‬زحمة ‬خانقة ‬قبل ‬مهاجمة ‬شبكة ‬أنظمة ‬التحكم ‬في ‬البنى ‬التحتية ‬للولايات ‬المتحدة، ‬ليضع ‬الهجومُ ‬البلادَ كلَّها، ‬ومن ‬ثم ‬العالم قاطبة، ‬في ‬حالة ‬شلل ‬تام.