بين العامين 550 و487 قبل الميلاد، لم يكن هناك وسيلة لوقف الهجمات المتكررة للإمبراطورية الفارسية على اليونان سوى موازنة تلك القوة الهائلة والجيوش والأساطيل الفارسية، وتحالف أكثر من 330 مدينة أيونية تحت قيادة أثينا، لوقف الزحف والاستنزاف الفارسي، فيما يُعرف بـ «الحلف الديلي».
دروس التاريخ لم تتوقف لتطوير مفهوم سياسي وعسكري واقتصادي لـ «موازنة القوى»، من خلال التحالفات العسكرية الدائمة أو المؤقتة في أوقات الحروب، وكذلك من خلال تطوير العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول في زمن السلم أو الحروب الباردة، وليس شرطا أن يكون البلد ضعيفاً ليتحالف مع قوة أخرى أو يطور علاقاته الثنائية معها، بل على العكس تحتاج الدول بعضها البعض، في قنوات معلنة أو غير معلنة، لتحقيق المصالح العليا للدولة، وتحقيق أمنها الإستراتيجي، إضافة لمنع وقوع الحروب والمعارك التي يدفع ثمنها الأبرياء.
في العام 1258 قبل الميلاد، لم يكن الفرعون المصري الملك رمسيس الثاني خائفا أو مرعوبا من ملك الحثيين «مواتللي الثاني»، لكن حسابات الربح والخسارة، في الدماء والمال والوقت، وكذلك التخطيط المبكر لميزان القوى، جعلته يوقع معاهدة «قادش»، وهي من أقدم اتفاقيات السلام عبر التاريخ، تضمنت بنودا عسكرية ودبلوماسية وقانونية، تنظم العلاقة بين الفراعنة والحثيين، ومن بنودها إقامة علاقات جيدة بين القوتين، واحترام سيادة أراضي الدولتين، وإحلال السلام بينهما بإقامة تحالف وقوة دفاعية مشتركة.
في الخليج، يقف الشاهد التاريخي «قصر الحصن» في أبوظبي، ليتحدث بوضوح كيف تحالفت جميع فروع قبيلة بني ياس، في عام 1761، لبناء الحصن وجعله برجَ مراقبة لحماية بئر المياه العذبة هناك، وهو تحالف عسكري اقتصادي تكرر عام 1971، بإضافة الأبعاد السياسية والاجتماعية العميقة واتحاد الإمارات المتصالحة، تحت مظلة دولة الإمارات العربية التي أصبحت قوة إقليمية توازي معظم قوى الإقليم سياسيا وعسكريا، بل وتتفوق على كثير منها في النواحي العسكرية والاقتصادية والعلمية.
لا يستطيع الباحث أن يتنازل عن مناقشة التحالف الأميركي الروسي خلال الحرب العالمية الثانية لحسم الحرب في زمن قياسي، ومع أن أميركا تقبع في مكان بعيد عن ساحة الحرب، لكن هجوم البحرية اليابانية على ميناء بيرل هاربر في ديسمبر 1941، وهي القاعدة البحرية للأسطول الأميركي في جزر هاواي، قد أرغم الأميركان على التحالف مع روسيا، وباقي دول الحلفاء للاشتراك القسري في الحرب، فباتت كفة الحلفاء أكثر قوة وخشونة في ميزان القوى، ومواجهة دول المحور وألمانيا النازية.
التخطيط المبكر لتوازن القوى يمنع الحروب، ويساهم بشكل فعّال في إرساء منظومة سياسية أمنية اقتصادية راسخة، ويعمل كآلة عملاقة في قراءة الكرة الأرضية وما عليها من دول وجماعات قراءة تحليلية عميقة، تكشف عن قوة كل منها، وحجم إمكانياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكذلك الاجتماعية والثقافية، ويقوم أيضا، وبعين ثاقبة، بمعرفة وسائل توثيق العلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة، إضافة إلى الدول التي يُحتمل إنشاء علاقات ثنائية معها، ووسائل تطويرها، وفي النهاية يحدد حجم الخصوم بدقة متناهية، ودراسة جميع إمكانيات السلام معهم، سلام الأقوياء الندّي، ثم يضع المخطط لجميع الاحتمالات الطارئة أو المفاجئة، ويستعد لها.
ميزان القوى، في الأدبيات، لا يبحث في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية فقط، بل عن القوى الناعمة أيضاً، فيصبح حصول جواز سفر الإمارات على المركز العالمي الأول في دخول أكثر من 180 دولة، من دون تأشيرة، دليلا على أن منظومة الإمارات السياسية والدبلوماسية تحتل أيضاً المركز الأول في تخطيط ميزان القوى وتنفيذه بالحد الأعلى من الجودة والنوعية والكفاءة، وأن الإمارات دولة لا تفكر بالهيمنة بقدر تفكيرها العميق الذي أنتج رؤيتها المدهشة، المتمثلة في أن السلام للأقوياء والشجعان وأن الحرب هي لغة الضعفاء الجبناء.
تعرض لبنان، الأسبوع الماضي، لحادث مأساوي خطير، بانفجار مرفأ بيروت، ومع أن الحادث قد كشف عن ضرر هيمنة الجماعات والميليشيات التي تدّعي الوطنية، بينما ولاؤها لدول أخرى، وكشف عن حجم الخلل الأمني الداخلي بسبب الإهمال أو القصد في الإضرار، إلا أنه قد وضّح أيضا، أنه لا يمكن تخطيط ميزان قوى خارجي متين، في ظل وجود جماعات إرهابية داخلية تنخر في عصب الوطن، فتبعد الأصدقاء والأشقاء، وتقرّب الأعداء والخصوم، وهذا تكرر أيضا، بصورة مفزعة، في سوريا والعراق وليبيا.