لبنان التعايش التنوع والتسامح منذ التماس بالماضي حد الحاضر، تعرض لأشنع الحروب دموية، ولكنه لم يحترق، بل زاد بريقه رغم المتربصين به الدوائر.
فالتركيز على لبنان الدولة المدنية ليس بجديد، فقد كانت كذلك عبر التاريخ الناصع من القرن الثاني للهجرة، لنقابل إمام العيش المشترك في العصر الحديث، إمام بيروت عبد الرحمن الأوزاعي، لما عرف عنه في عصره من تسامح مع المسيحيين واليهود من أهل الشام، ولقب بـ«شفيع النصارى» لموقفه الحازم في مواجهة والي الشام، والخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، اللذين عزما على إجلاء أهالي جبل لبنان المسيحيين.
توفي الأوزاعي في بيروت سنة 157هـ، وكانت جنازته كبيرة، وقيل إن من شارك فيها مسيحيون ويهود بأعداد تفوق من شاركوا فيها من المسلمين، وقيل إن قسماً منهم أسلموا يومها.
هذا جزء من تاريخنا المشرق في لبنان، لا ينبغي تجاهله، بل الاسترشاد به والبناء عليه، ففي القرن السابع للهجرة، توغلت طائفة «الحشاشين»، وتمترس منتسبوها في جبال لبنان يقطعون الطرقات ويؤذون العابرين ويسرقونهم، فسمع نبأهم القائد «بيبرس»، فبعث من خلفهم جيشاً عرمرماً خلّص الناس من شرهم، وأعاد الأمن والأمان إلى ربوع لبنان والاطمئنان إلى الإنسان، ومن استوطن ذاك المكان بلا تفرقة في الأديان.
بداية العهد في هذه اللحظة الفاصلة للبنان الدولة المدنية، هي في خوضه لهذه الرحلة العابرة لكل الطوائف والأديان، وكذلك الأحزاب التي تضع العراقيل أمام هذا المشروع لاستمرار المستقبل في لبنان.
رحلة البحث عن المشترك الإنساني في لبنان، لا ينبغي أن تتوقف عند مسيرة «الأوزاعي»، ولا ينبغي ألا يُسمح لـ«الحشاشين الجدد» بوقف قطار الدولة المدنية في لبنان المهيأ للعب هذا الدور الحضاري بجدارة.
إذا أجمع الشعب اللبناني بكل مكوناته، بعد تشخيص عميق ودقيق لما مر عليه من أزمات خانقة، وكادت يوماً أن تكون ماحقة، بأن السبيل الوحيد للخروج من كل ذلك بسلام هو في إرساء دعائم الدولة المدنية، فلا عذر لأحد في التأخير عن ذلك المسار المنجي.
تفجير بيروت وما ورائه من طائفية مؤدلجة، وهي السبب الرئيس لأزمات لبنان السابقة طوال أكثر من ثلاثة عقود، وعندما حان وقت الأمان، جاء من يعبث بالمدنية التي أجمع عليها الشعب قبل الساسة الذين دخلوا أروقة الفساد من أوسع الأبواب، ولسنا من يقول ذلك، فمن هو أدرى بشعاب لبنان يقر بهذا، فقد اتهم بهاء الحريري «حزب الله» الإرهابي والحكومة اللبنانية الفاسدة كما وصفهما، بالوقوف خلف الانفجار الذي دمّر بيروت، مؤكداً «إنّ الجميع يعلمون بأن حزب الله سيطر على ميناء بيروت ومطارها، وأنه لا يمكن تصور أن السلطات لم تكن على علم بأن نترات الأمونيوم القاتلة، كانت مخزنة في مستودع هناك».
وتأكيداً على ذلك، قالت صحيفة «الجارديان»: إن الانفجار الذي حدث في لبنان يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الكوارث ليست غريبة عن لبنان، ولكن ما حدث في مرفأ بيروت كان لا يتصوره عقل، وأضافت: «أنّ الأسئلة حالياً تدور حول أسباب الانفجار، ولماذا تم تفريغ 2750 طناً من نترات الأمونيوم في ظروف غريبة من سفينة متعثرة مستأجرة منذ عام 2014، وتُركت في الميناء لمدة ست سنوات؟».
ورغم كل ذلك، فإن لبنان قادر على النهوض مرة أخرى، وهو أكثر ألقاً وأناقة، وساحة مفتوحة للتعبير عن كل الأفكار الحرة، وبأسلوب حضاري يميزه الرقي.