الأحداث المتسارعة الأخيرة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والخلافات بين دول هذه المنطقة، تستدعي الرجوع خطوة للوراء لفهم ما يحدث الآن. فالعدوان اللدودان تركيا واليونان عرفا قروناً من الصراع، فاليونان هي وريثة الدولة البيزنطية، وتعتبر أن الأراضي التركية سُلبت من إمبراطورية الرومان الشرقية، ومنذ تأسيس الدولة اليونانية عام 1768، وهي في حالة عداء مع الأتراك، بلغ ذروته عام 1815 بمحاولة تركيا غزو الجزر اليونانية، حيث ردت اليونان بدعم جميع الجهات المعادية لتركيا، كالبلقان وشرق أوروبا، حتى اندلعت أول حرب بين البلدين عام 1897، انتهت بهزيمة اليونان التي انتقمت لنفسها في حرب «البلقان الأولى» خلال الفترة 1912-1913، بتحالفها مع صربيا وبلغاريا، حيث تمت هزيمة الأتراك، واستولى اليونانيون على نحو ستة آلاف جزيرة في بحر «إيجة». واستمرت حالة الصراع بين البلدين في الحرب العالمية الأولى، لتتوقف بتوقيع معاهدة «لوزان» عام 1923، ثم تطبيع العلاقات عام 1930، تبعها انضمام كلا البلدين لحلف «الناتو»، وتوقيع اتفاقية «زيورخ» عام 1960، والتي بموجبها تم الاعتراف بجزيرة قبرص كبلد مستقل. لكن عاد الصراع مجدداً بين البلدين عام 1974 بعد حدوث انقلاب عسكري في الجزيرة بدعم يوناني، ردّت عليه تركيا بتقسيم الجزيرة واحتلال الجزء الشمالي منها، وتحويله إلى دولة شمال قبرص التي لا يعترف بها أحد في العالم غير تركيا.
ومن الطبيعي أن الاكتشافات الأخيرة للثروات الطبيعية الهائلة في منطقة شرق المتوسط، تجعل من دولة فقيرة في مجال البترول والغاز مثل تركيا يسيل لعابها لتلك الثروات، فهي تشعر بالغبن بموافقتها على توقيع تلك الاتفاقيات مع جيرانها في القرن الماضي، وتراها اليوم اتفاقيات لا منطقية ومجحفة بحقها. علماً بأنه عندما قامت الأمم المتحدة بوضع اتفاقية «قانون البحار» عام 1982، رفضت تركيا التوقيع عليها، إذ تقلل من الخلافات البحرية بين الدول المتجاورة، وتفض النزاع حول أي مجرى مائي، وذلك بحصول كل دولة على نصفه، بمعنى أن تركيا لها نصف بحر «إيجة» واليونان لها النصف الآخر، إلا في حال وجود جزر، حينها تنتهي الحدود البحرية اليونانية عند أقرب جزيرة لها نحو تركيا، وأقرب الجزر اليونانية لا تتجاوز بضعة أميال بحرية تجاه تركيا. وبموجب هذا القانون، لا تمتلك تركيا أية منطقة اقتصادية بحرية في شرق المتوسط، ولا يحق لها التنقيب عن الثروات الطبيعية.
جميع دول شرق المتوسط سبق لها التوقيع على «قانون البحار» الأممي ومتفقة عليه، فجميعها مستفيدة، باستثناء تركيا. لكن ما لا تعلمه تركيا هنا أنه لا أحد يسعى لإلحاق الضرر بها، فالجميع يبحث عن مصلحته، وليسوا مسؤولين عن حظ تركيا السيئ مع هذا التواجد الكثيف من الجزر اليونانية في البحر، وكذلك وجود جزيرة قبرص في جنوب البحر حرم تركيا من المناطق الاقتصادية، وهذا ما دفعها إلى إقناع الآخرين بضرورة الاحتكام لقانون «الجرف القاري»، والذي يستبعد وجود الجزر من الحسبة في المناطق الاقتصادية، والذي على أساسه قامت تركيا بترسيم حدودها البحرية مع حكومة «الوفاق» الإخوانية في ليبيا، رغم وجود جزيرة «كريت» اليونانية الفاصلة، والتي تمنع أي ترسيم بحري بينهما! وهذه الاتفاقية تخالف الواقع والقانون، ما جعل مصر واليونان تردان عليها بترسيم حدودهما البحرية مؤخراً. هذا بخلاف الاتفاقيات الحدودية الأخرى التي وقّعتها بقية دول حوض المتوسط لترسيم حدودها البحرية، وتأمين مصالحها في ظل التهديدات التركية.
تركيا عندما وجدت نفسها معزولة بسبب سياستها العدائية ضد الجميع، مع عدم احترامها للقوانين الدولية، استخدمت وكالمعتاد لغة العنجهية، بالقيام بأعمال تنقيب استفزازية، وهذا لن يمنحها إلا مزيداً من العزلة والعداء!

*كاتب إماراتي