في جميع الدول التي تعرف نجاحات في سياساتها العمومية، بما فيها المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وتلك المتعلقة بالسياسة الخارجية والدفاعية وغيرها، أي كل المجالات القطاعية.. تلعب مراكز الأبحاث دوراً كبيراً في بلورة تلكم السياسات، بدءاً من التشخيص، وصولاً إلى وضع الحلول والبدائل وصياغة الفرضيات الهادفة. فهذه المراكز، خاصة في الدول الغربية، تتمتع بالاستقلال المالي وبمواردها البشرية المتخصصة وبالمصداقية والمرونة الكافية لإنجاز التقارير والدراسات. والدول التي تشجع هذه المراكز هي المستفيدة بالدرجة الأولى، لأنها ستجد نفسها أمام مراكز وطنية تعرف أحسن من أي جهة أخرى الوضع المراد بحثه، وهو ما يعطي لأبحاثها نتائج ومردودية أوسع وأنجع، وبما يغني عن الاستعانة بمكاتب دراسات أجنبية. 
في هذا الجانب يميز الباحث كارول ويس (Carol Weiss) بين أربعة أنواع من مراكز الأبحاث الموجودة في أنحاء العالم:
1- «جامعات دون طلبة»، مثل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)، وهي مراكز تستعين بباحثين من حملة شهادة الدكتوراه ومتخصصين في مجالات دقيقة، يطالَبون بإنجاز دراسات وفق الشروط والمعايير الأكاديمية والعلمية.
2- مراكز أبحاث تعمل على بلورة دراسات جادة تطلبها منها مؤسسات عمومية، كمجموعة راند كوروبوريشن (Rand Corporation).
3- مراكز أبحاث ذات قضية محددة تدافع عنها (Advocacy Thinks Tanks)، وهي مؤسسات تنتج أعمالاً وتطور أفكاراً ذات صلة بالمبادئ والقيم التي تحاول الدفاع عنها.
4- مراكز الأبحاث اللصيقة بالمؤسسات السياسية، على الرغم من أنها دائماً تسعى لإبقاء قدر من الاستقلالية، حفاظاً على النزعة العلمية لدى الباحثين المنضوين تحت لوائها.
وهناك مجموعة من العوامل أسهمت في نشأة بعض المراكز البحثية في العديد من الدول وفي زيادة عددها.. فالسياسات العمومية أصبحت مُعَوْلَمة، وهي تضع أصحاب القرار والمجتمع العلمي والمدني أمام ثنائية التأثير والنقد المتبادلين. فالمجتمعات التراتبية بدأت تتغير لتحل محلها المؤسسات القطاعية، وهذه بدورها تأثرت بما يسميه عالم السياسات العامة الفرنسي ألان تورين (Alain Touraine) «نمو التاريخانية» (La croissance de l’historicité) والتي تولِّد ما يمكن تسميته مفارقة اللايقين (uncertainty paradox). فاللايقين ليس مردُّه عوامل خارجية، مثلما كان الأمر في السابق، بل يكمن سببه في عوامل تكون المجتمعات مسؤولة عنها: كالتلوث، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الصناعية، والسلامة المرورية، واستعمال الإرهابيين الأسلحة الفتاكة، إلى غير ذلك. وبمعنى آخر، فإن الكثير من السياسات العامة إنما تُصاغ لحل مشاكل، أو لإصلاح اختلالات في سياسات عامة أخرى، أو لنقل سياسات قطاعية أخرى. أي أن المجتمع القطاعي الذي يقع دائماً في حالات انعدام التوازن يولّد عدة مشاكل، واختلالات وظيفيّة ونتائج سلبية، تحتاج بدورها إلى سياسات عامة أخرى لحلها.
ولا غرو أن جُل المختصين والباحثين في هذا النوع من المراكز ملتزمون بنوع من الرياضة الذهنية في دراساتهم المستقبلية، حيث ينطلقون من مفهوم العلم ومن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الباحث في العلوم الاجتماعية، بمعنى أن تكون له القدرة على فهم الظاهرة الاجتماعية وتحليلها تحليلاً علمياً قبل أن يسبر أغوار المستقبل، معتمداً في ذلك على ثلاثة مرتكزات أساسية:
1) التحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن البيئي، صياغة قوة دفاعية ردعية، التأثير في مجريات الأحداث الاستباقية دون الدخول في الحروب، ضمان استقرار التماسك الاجتماعي، تفادي الأزمات الاقتصادية. 
2) تحديد البدائل المستقبلية انطلاقاً من الحاضر (وبالضبط انطلاقاً من نتائج الباحثين في العلوم الاجتماعية) لتأخذ الطابع النظري والمثالي. 
3) اختيار أحد البدائل المستقبلية كحل ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة، أو لتحسين حالة من الحالات، أو البدء بالتأثير في مجريات الأحداث، والتي لولاها لوصل المجتمع إلى حالة أسوأ.
والهدف من البحث المستقبلي الذي تقوم به مراكز الأبحاث، الإسهام في خدمة المجتمع، تماماً كما هو شأن العلوم الاجتماعية، إلا أن الهدف الإضافي في هذا الجانب يتمثل في تفادي المعيقات التي تحول دون تحقيق مستقبل أفضل، وبلورة الحلول والبدائل المستقبلية لصناع القرار.


*أكاديمي مغربي