ها قد صرنا على باب الخريف، الذي قال لنا عنه بعض العارفين من أهل العلم والطب والسياسة، إن الوباء سيبدأ فيه هجوماً جديداً. ألم يُقال إنها حرب؟ فمنذ متى كانت الحرب الجائحة تقتصر على معركة واحدة، أو لا تتعدى أن تكون نسقاً واحداً من المقاتلين يتقدم إلى الميدان، ثم ينتهي الأمر بتحديد من انتصر، ومن انكسر؟
يعيد الفيروس التفكير فيما فعله سابقاً، ويقوم بتقييمه، كما هي الحرب، حيث يجلس القادة الكبار في غرف العمليات المجهزة بأحدث معدات كاشفة للميدان، وجالبة للمعلومات التفصيلية، التي تجعلهم قادرين في كل لحظة إلى إعادة التقييم، وإصدار أوامر جديدة. هكذا يخبرنا علماء البيولوجيا عن كثير من الكائنات الحية، القادرة على التكيف مع كل معطى جديد يظهر أمامها. لهذا لم ينته فيروس ظهر في أي يوم من حياة الناس، إنما يصبح علينا أن نتعايش معه.
يبلغ التعايش ذروته حين يصل العلم إلى لقاح، فنكون عندها على استعداد للإصابة، ثم المسارعة إلى المستشفيات لتلقي العلاج الناجع، والانصراف إلى أعمالنا دون تباطؤ. قبل هذا يكون التعايش قهراً وإرغاماً، قبولا بالأمر الواقع، كأي شعب انهزم جنده، واحتلت أرضه من قبل جيش جرار معادي لا قبل له به، حتى يتمكن من إعادة تنظيم صفوف مقاومته، ودخول المعركة بطريقة أخرى.
كتبت علي البشرية المقاومة إذاً حتى يصل النابهون الذين يعملون ليل نهار في المعامل إلى اللقاح المطلوب، وستكون هذه المقاومة أشد ضراوة إن جاء الشتاء ولم يعلن أي معمل نبأ النصر الذي تنتظره البشرية في لهفة شديدة. فالوباء بدأ في الشتاء، هناك على أرض الصين، ولم ينتبه بقية الناس أن هناك حرباً قد اندلعت إلا حين أرسلت أوزارها إلى أوروبا، حيث الإعلام الحر، الذي أخبر العالم كله بحقيقة ما يجري.
لدى الوباء قدرة، كأي عدو، على ممارسة الخداع، سواء تكتيكاً أو استراتيجياً، فهو لم يصنع أعراضاً واحدة بكل مكان ضرب فيه، وبدا متشابهاً مع أعراض فيروسات وأمراض أخرى عرفها البشر وتعايشوا معها، ولديه قدرة على تطوير هجومه، كلما لقي مقاومة تمضي وفق «مناعة القطيع» أو بفعل أدوية تعالج أعراض الإصابة أشد ضراوة. فهو بعد أن كان يُعرف باستهدافه الجهاز التنفسي، مع أعرض تصيب الجهاز الهضمي، بدا يقتصر في شوطه الراهن على إصابة الأخير فقط، وبعد أن كان قتلاه هم من تضيق صدورهم حتى تتوقف أنفاسهم تماما، أصبحنا نقرأ تقارير طبية عن الجلطات المميتة التي تنجم عنه، أو الإسهال المفرط الذي يصفي ماء الأجساد حتى تخمد. 
وسط هذه الحيرة يمضي العالم في خريف سيفضي به إلى شتاء، والمعامل لم تصل بعد إلى سلاح مقاومة فتاك قادر على وضع حد لحرب وباء، لا نزال حتى الآن في شك حيال ما إذا كان من إنتاج الطبيعة أم صنع الإنسان، بل إن الأغلبية الكاسحة منا لم تعد تشغلها الإجابة عن هذا السؤال، فأياً كان مصدره، فالمهم هو كيفية التغلب عليه.
كما لا تنشغل الأغلبية بإقحام الوباء في أشياء لا دخل لها بمعارك الأجساد المصابة أو الخائفة من هذا، فلتوظفه الولايات المتحدة في حربها التجارية ضد الصين كما شاءت، وليتخذ منه خصوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلاحاً لهزيمته في الانتخابات الرئاسية، التي ستجري في نوفمبر المقبل حسبما أرادوا، ولتقاتل الدول الكبرى في سبيل الوصول إلى لقاح أسرع من منافساتها، فتضمن مئات المليارات من الدولارات في خزائنها، وليجد الإعلام المتلفز فيه مادة جاذبة للمشاهدين فيقتنص حصة من كعكة الإعلانات، فهذا لا يجعل ذهن الإنسان البسيط، المتخفف من كل هذا الحمل، منصرفاً عن التفكير في المعادلة الأولية التي تهمه وهي: كيف نتجنب الإصابة ببطون مملوءة؟ فهو يهتم بعمله أولاً، فلولاه لمات جوعا، ثم في التعامل مع الوباء ثانياً، ويا حبذا لو استطاع أن يستمر في العمل دون إصابة، فوقتها فقط سيكون بوسعه أن يقول: لم تصل نار حرب كورونا إلى طرف ثوبي.

* روائي ومفكر مصري