العلاقة بين ما هو اقتصادي وسياسي مترابطة ومتداخلة بصورة معقدة، لكن الحكمة تتطلب دائماً التقليل من التأثيرات والتأثيرات السلبية المضادة بين طرفي هذه المعادلة. وللأسف، تأخذ الأمور منحى آخر أحياناً، إذ تساهم التجاذبات السياسية في عرقلة المزيد من المشاريع التنموية المشتركة والمفيدة لكافة الأطراف المشاركة فيها.
أقرب مثال على ذلك، تلك المشاريع التنموية والتعاونية، التي أقرت في نطاق جامعة الدول العربية، والمتراكمة في أدراجها منذ أكثر من 70 عاماً، والتي لم ير النور أي منها، وذلك على الرغم من أن بعضها، كاتفاقية التجارة الحرة البينية، ستحقق مكاسب لجميع الدول العربية، ولن تلحق أذى بأي منها.
ولا يقتصر ذلك على البلدان النامية التي تطغى على تعاملاتها الجوانب السياسية، وإنما شمل ذلك البلدان الغربية المتطورة والبراغماتية، ففي الوقت الحالي يتم عرقلة أحد أهم مشاريع البنية التحتية لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا «نورد ستريم 2»، والذي سيحقق مكاسب كبيرة للبلدين ولأوروبا بشكل عام، علماً بأن هناك خطوط غاز أخرى من روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، تمر عبر بعض الدول الأوروبية، إلا أن «نورد ستريم 2»، والذي استُكملت معظم أجزائه ويمر عبر بحر البلطيق، يعتبر أول خط مباشر بين روسيا وألمانيا الاتحادية.
هنا يتداخل الاقتصاد والسياسة، ويتصادمان بقوة شديدة، فاقتصادياً، حيث تضغط واشنطن بشدة لوقف المشروع، بحجة تقليل اعتماد برلين على الغاز الروسي، إلا أن الحقيقة، هي أن الولايات المتحدة تحولت خلال السنوات القليلة الماضية، بفضل الغاز الصخري، إلى أحد أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم، وبالتالي، فإنها تبحث عن أسواق استهلاك كبيرة، كالسوق الألمانية. في البداية لم تستجب برلين لهذه الضغوط، إلا أن المباشرة بسحب جزء من القوات الأميركية منها، فرض عليها إعادة حساباتها من جديد.
ولم تتعب ألمانيا كثيراً في البحث عن سبب لوقف المشروع، إذ جاءها على طبق من ذهب بعد تسميم المعارض الروسي «الكسي نافالني»، والذي نقل على وجه السرعة إلى ألمانيا للعلاج، إذ توحدت الحكومة والمعارضة، لتعزف نفس اللحن الخاص بوقف المشروع وفرض عقوبات على روسيا، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى مطالبة النائب «نوربرت روتجن»، المرشح لخلافة ميركل، بوقف إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا.
بالتأكيد، فإن تسميم «نافالني» عمل شائن يعاقب عليه، بغض النظر عن من ارتكبه، إلا أنه في الوقت نفسه من غير الحكمة الإضرار بمصالح دول وشعوب لمجرد أن هناك محاولة قتل، إذ أنه إذا ما عولجت كافة الأعمال الإجرامية في العالم بهذا الأسلوب، فإن التعاون الاقتصادي والتجاري الدولي ستلحق به أضرار بالغة ومكلفة، خصوصاً أن هناك بدائل يمكن اتباعها لمعاقبة المتهمين، كتحويلهم إلى القضاء ومحاكمتهم، مثلما حوكم قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، حيث لم تفرض أية دول أية عقوبات على لبنان، حتى بعد صدور حكم الإدانة.
ذلك يعني أن هناك حسابات سياسية تقف وراء وقف «نورد ستريم 2»، إذ يبدو أن عدوى الجامعة العربية انتقلت لأوروبا، وهي مقارنة محزنة ومضحكة في الوقت نفسه، فالمفروض أن تنتقل براجماتية أوروبا للدول العربية، وليس العكس!
التقليل من شدة الارتباط المقدس بين الاقتصادي والسياسي أمر صعب للغاية، خصوصاً أنه يتطلب اتخاذ قرارات صعبة وشجاعة كبيرة، وذلك بسبب التحديات والمعارضات التي سيلاقيها، بحكم رواسب عقود طويلة من الصراعات، وبالأخص أثناء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
ضمن هذه التغيرات الجريئة، تشهد منطقة الشرق الأوسط أشكالاً غير مسبوقة من التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، متجاوزة حواجز نفسية معقدة، مما سيحقق لكافة البلدان المشاركة في عملية التغيير مكاسب اقتصادية كبيرة، بغض النظر عن تفاوت المواقف السياسية منها، فالمصالح والبراجماتية، ربما تكون بديلاً للعراقيل الخاصة بالترابط بين ما هو اقتصادي وسياسي، وهذا بحد ذاته يعتبر تحولاً ذا أبعاد استراتيجية مهمة. 
*مستشار وخبير اقتصادي