يتابع العالم بأسره مأساة السودان الذي غرقت العديد من قراه وأحياء بعض مدنه في مياه فيضان جارف، ساقته أمطار هطلت بغزارة لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمن، خلّف وراءه مائة وخمسة عشر قتيلاً حتى الآن، فيما انهار أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف منزل بشكل كامل، وما يربو على خمسين ألفاً بشكل جزئي.
وانهيار المنازل وتصدعها، وعزل المياه لقرى وأحياء عن بقية العمران في بلد لا يزال يلملم جراحه، هو من دون شك، كارثة طبيعية كبرى، ما كان لآثارها أن تكون فادحة على هذا النحو، لو أن من حكموا السودان طوال ثلاثين عاماً، قبل اندلاع ثورة 19 ديسمبر 2018، قد شيدوا بنية تحتية قوية هيأت البلاد للتعامل مع هذا الظرف القاسي.
لقد عاش أهلنا في السودان ثلاثة عقود تحت أسوأ أنواع الحكم، وهو الذي قام على تحالف بعض جنرالات الجيش مع التيار الديني المتشدد، فراح أركان هذا النظام يحدثون الناس عن «تطبيق الشريعة»، و«نصرة الإسلام»، بينما واصلوا، بلا تمهل ولا ورع، سرقة المال العام، وقمع كل معارض أو مخالف. نعم غضب الشعب وأزاح نظاماً كان قادته يظنون أنهم باقون في كراسيهم إلى الأبد، لكن آثاره مستمرة، وآخرها غرق البلاد والعباد. فحكومة ما بعد الثورة لا تزال في مرحلة التقاط الأنفاس، وترميم الشروخ السياسية والقانونية، التي خلفها السابقون، وهي جد كثيرة وخطيرة، وتحتاج إلى وقت، لاسيما في ظل عدم وجود إجماع عليها، حتى بين الثوار أنفسهم، فيما يتربص بها أنصار النظام الذي طارت رأسه، وبقي جسمه متمدداً في طول السودان وعرضه.
وبعيداً عن خلافات السياسة ومشاجراتها التي لا تنتهي في عالمنا العربي، فإن أهل السودان باتوا في حاجة ماسة إلى تقديم يد العون، من العالم بأسره، وخصوصاً الدول العربية، فما لا يحتاج إلى كثير كلام أن قدرات الدولة السودانية، التي تم إنهاكها بفساد وحروب طويلة، لا يمكنها أن تنهض وحدها بهذا العبء الثقيل، وعجزها هذا سيؤدي إلى تفاقم المشكلة، بمرور الأيام.
لقد حملت لنا المقابلات المتلفزة والمقروءة، والصور القادمة من قلب هذا الحدث المروع، الكثير من المعلومات المفزعة عن أسر مشردة، ومياه تتلوث باستمرار، وأبواب مجاعة، وفقدان لأبسط متطلبات الاستمرار على قيد الحياة، وأمام وضع كارثي كهذا، لا يجب أن تغل يد أحد قادر، دولة أو رجل أعمال أو مؤسسات إغاثة إقليمية ودولية، عن التعامل مع السودان الآن على أنه دولة أولى بالعناية والرعاية، بل الإنقاذ العاجل.
فرغم أن الحكومة السودانية تتحدث عن بداية تراجع منسوب مياه النيل، ما يعني انحسار الفيضان، فإن آثاره الآنية فادحة، والمستقبلية كذلك، فالبيوت المهدمة والمتصدعة، والبرك والمستنقعات المتناثرة، وخسارة عشرات الآلاف من الأسر لأثاث بيوتها، يشير إلى أن علاج المشكلة يحتاج إلى وقت أطول مما يظن المتفائلون في الحكومة السودانية، وأكثر مما يعتقد أولئك الذين قدموا مساعدات عاجلة، بينما عليهم أن يزيدوا فيها، بمناقشة الخرطوم فيما تحتاجه بالفعل، بعد حصر الخسائر.
إن كل من يعرف أهل السودان لديه إيمان جازم بأن من يقدر فيهم، ولو بالقليل، لن يبخل به على المنكوبين، فهم شعب يميل إلى مساعدة بعضه بعضاً في الحل والترحال، وفي الوطن والغربة، لكن ظروف الجميع باتت صعبة، لاسيما في ظل جائحة كورونا، كما أن حجم الكارثة أكبر من أن يتلافاها بذل أهل الجود والكرم، ولذا فإن المساعدة الرسمية وغير الرسمية، عربياً ودولياً، لا مناص منها، وهي يجب ألا تقف عند حدود دفع الأموال ومواد الإغاثة، إنما أيضاً مشاركة الحكومة السودانية التفكير في الخروج من هذا الظرف العصيب.
_ _. _ __. _ _ _ 
* روائي ومفكر سياسي