في الوقت الذي تزداد الجهود المبذولة سعياً إلى حل سياسي للأزمة الليبية، يغدو ضرورياً أن نستذكر المقومات المحورية اللازمة لنجاح أي مفاوضات، استناداً على الخبرات السابقة في مجال التفاوض، من أجل حل الصراعات بعد الحرب العالمية الثانية، تُفيد هذه الخبرات أن المفاوضات، التي فشل طرفاها أو أطرافها في التوصل إلى حلول سياسية ناجعة ومستدامة، أقل من تلك التي أفضت إلى تحقيق الهدف منها، وقد تراكمت على مدى عقود خبرات كبيرة مُستمدة من مفاوضات كثيرة أُجريت من أجل حل أزمات، سواء كانت داخلية أو إقليمية أو دولية، كما أصبحت لدينا معرفة متراكمة بشأن المقومات العامة اللازمة لجدية التفاوض، ومن ثم نجاحه، عندما يتعلق الأمر بأزمات مُركبة، تتداخل فيها مكونات داخلية وإقليمية ودولية، كما هو الحال في الأزمة الليبية الراهنة.
ووفق تلك الخبرات، وما يُستفاد منها، يُحقق المتفاوضون نتائج إيجابية، ويُفضي التفاوض إلى حل الأزمات التي تُجرى مفاوضات حولها، عندما تتوافر مقومات عدة، في مقدمتها ثلاثة، هي الاستعداد الكامل للتفاوض على أساس حُسن النوايا، بهدف التوصل إلى أقرب نقطة يمكن الالتقاء عندها، ووجود تفاهم حقيقي على أسس تنطلق منها المفاوضات، إلى جانب شمول العملية التفاوضية القضايا الأساسية أو الكبيرة المتنازع عليها، وعدم تجزئتها.
أما المُقوم الأول، وهو التفاوض على أساس النوايا الحسنة، فتعود أهميته إلى أن توافر هذه النوايا هو الذي يضمن تصرف الطرفين، أو الأطراف، وفق ما قبلوه، أو التزموا به، في جدول أعمال المفاوضات، عندما اتفقوا على إجرائها، ثم في تنفيذ ما يتم التوصل إليه فيها. وينصرف هذا المُقوم إلى عدم وجود تناقض بين القول أو الخطاب في جانب، والفعل أو الموقف خلال العملية التفاوضية، وفي التعامل مع مخرجاتها في الجانب الثاني، والنوايا الحسنة، بهذا المعنى شرط أولي ضروري، ولا بديل عنه لإحراز تقدم حقيقي في معالجة أية أزمة باتجاه حلها.
ويتعلق المُقوم المحوري الثاني لنجاح التفاوض، بضرورة التفاهم منذ البداية على أسس تنطلق منها المفاوضات، أو على الأقل تُعطي أولوية متقدمة في مسار التفاوض، خاصةً تلك التي يصعب، أو يستحيل، التقدم نحو حل سياسي ناجع ومستدام من دون اتفاق عليها، ومن الطبيعي أن تختلف بعض هذه الأسس من أزمة إلى أخرى، ولكن عندما تكون هناك ميليشيات مسلحة، سواء محلية أو أجنبية مرتبطة بدول تستخدمها لدعم نفوذها، والحصول على مكاسب في البلد محل الأزمة، لا بد أن يكون نزع سلاح هذه الميليشيات ثم تفكيكها في مقدمة هذه الأسس التي يتعين قبولها عند بدء التفاوض. 
وترجع أهمية هذا القبول المبكر إلى طبيعة الأزمات، التي تنشط فيها ميليشيات خارج إطار الجيش الوطني الذي ينبغي أن يكون واحداً، أو في مواجهته، وكان غياب هذا القبول سبباً في فشل مفاوضات عدة، لأن وجود ميليشيات كان في مصلحة أحد طرفي أزمة أو أطرافها. ولذلك، تفيد الخبرات التفاوضية المتراكمة أن قبول تفكيك الميليشيات المسلحة، يُعد مقوماً أساسياً لنجاح أي تفاوض في التوصل إلى حل للأزمة الليبية.
أما أهمية المُقوم الثالث، وهو شمول العملية التفاوضية كل القضايا الكبيرة محل النزاع، فتعود إلى أن تجزئتها لا تُفيد في التوصل إلى حل سياسي ناجع ومُستدام، وقد تعطي شعوراً خادعاً بحدوث تقدم نحو هذا الحل، الذي يصعب تصور التوصل إليه في غياب، أو تغييب، قضايا أكثر أهمية مما يتم الاتفاق عليه في مفاوضات تفتقد الشمول، فالمعتاد عند تجزئة قضايا التفاوض أن يبدأ من يتبعون هذا المنهج بالأسهل أو الأقل صعوبة، ويؤجلون بالتالي الأكثر أهمية، ولا يستفيد من أسلوب تجزئة القضايا إلا الطرف الذي يتفاوض من دون حُسن نوايا، لأنه يستثمر العملية التفاوضية لتحسين صورته أمام العالم، الأمر الذي يُمكنه من المماطلة في التفاوض على القضايا المؤجلة، أو السعي إلى الالتفاف عليها من دون أن يُتهم بأنه يرفض المفاوضات، أو يقف عائقاً أمام حل الأزمة.
لقد بات ضرورياً، إذن، الانتباه إلى أهمية توفير المقومات المحورية للتفاوض الناجح، في الوقت الذي يبدو أن أبواباً بدأت تُفتح في الاتجاه إلى مفاوضات لحل الأزمة الليبية التي طال أمدها، والاستفادة من تجارب جولات تفاوضية سابقة، انتهى بعضها إلى اتفاقات صارت جزءاً منها، بدلاً أن تضع حداً لها.