ليس من أهداف السلام التخلي عن فلسطين، بقدر ما فيه تحمل مسؤوليات أكبر تجاه القضية المركزية للعرب والمسلمين، في مرحلة نحتاج فيها لصوت سلام أعلى من قرقعة السلاح، وهذا الأخير هو ما تخلى عنه عرفات «رحمه الله» منذ عقود، وقد ألقى مسدسه الشخصي رافعاً مكانه غصن الزيتون.
هناك حقائق ووقائع رسمت على خريطة الطريق الفلسطينية، خطتها القيادات الفلسطينية ذاتها، ولم تكن بفعل فاعل عربي، بل كانت فلسطينية بحتة، فمن ذلك اعتراف عرفات عندما دخل إلى الضفة لأول مرة، وسجد شكراً لله أمام العالم، وإقراره بأنه استطاع خلال سنوات كفاحه ضد المحتل الإسرائيلي استرجاع 3% من الأراضي الفلسطينية، والباقي على القيادات الأخرى إتمامه.
فارقَ عرفات الدنيا وأفضى إلى ما قدم، بعد أن ترك الأمانة بيد محمود عباس، الذي خاض صراعاً مريراً تحولت فلسطين في عهده إلى «فلسطينيين»، وفتحت أمامه جبهتين «الضفة وغزة» وسلطتين متصارعتين إلى حد الاقتتال، وإسرائيل تتفرج وتتمدد بمستوطناتها في القسم الفلسطيني مع قصف ومناوشات بين الجانبين لم تنشء سلاماً، بل «حماساً» لهدنة غير متوقعة، ولكنها حصلت بحكم من السياسة.
مع تقادم العمر الافتراضى للقضية برمتها، بدأ الصراع يتحول إلى نقاط خلافية بين طرفي الصراع، حيث وقف قطار السلام عند نقطة الواحد بالمائة، وهي الحد الفاصل بين تحقيق حلم الدولتين.
فالعرب قاطبة وضعوا مصالحهم في قمة بيروت 2002 بين يدي الدولة الفلسطينية المرتقبة عندما تركوا على الطاولة مشروع سلام شامل وكامل، سلام تام مع إسرائيل، ولكن سفينة السلام الفلسطينية تعثرت، فتحولت القضية من مرحلة الصراع إلى صراخ وعويل شعاراتي لا يقدم حلاً إنْ لم يؤخر القضية عقوداً.
فالإمارات منذ التأسيس، وحتى عهد التمكين، لم تتعامل مع القضية العربية الكبرى حسب ما تُملي الشعارات الواهية أو اللافتات السياسية الخادعة، بل قدمت الدعم والمواقف الراسخة، فهي دولة من حقها أن تمارس سيادتها وفقا لمصالحها، مع مراعات المتغيرات من حولها.
فالاتفاقيات السياسية بين الدول لا ينبغي النظر إليها، على أساس أنها تعقد أو تبرم مع عِلان ضد فلان، فهذه الحمولة مرفوضة ما لم تُر مذكورة في بنودها، وهذا لم يتم بعد، فهي لا زالت في طور التأسيس، فالحكم عليها من الآن نوع من الإجحاف.
ولم تغفل عين الإمارات عن فلسطين يوماً، سواء في زمن الاتحاد أو زمن الإمارات المتصالحة، فمن وحي الذاكرة، أذكر وقد كنت حاضراً وشاهداً عليها في سن الطفولة، حيث ليس للسياسة مكان، ولا حس، فضلاً عن الحدس في أذهاننا.
ففي ستينيات القرن الماضي، كنت مع والدي «رحمه الله» في زيارة لبلدية دبي لإتمام معاملة رسمية لا أذكر ماهيتها، ولكن كل ما لفت انتباهي عندما سمعت والدي يناقشُ الموظف حول بعض الرسوم الإضافية التي اشتملت عليها إتمام الإجراءات، فقيل له هذه الدراهم خاصة بفلسطين، فقد علق والدي قائلاً: يستاهلون.
فهذه ضريبة فلسطين، والتي كانت قيمة معنوية مضافة وليست مِنة منا، بل واجب ممتن تجاه أهلنا.
والدي الأُميّ لم يكن مسيساً ولا منتمياً إلى حزب، بل مشحوناً بعاطفة فطرية نقية حيال القضية الفلسطينية، وهذا بالطبع قبل قيام الاتحاد، وفي فترة الإعداد للإعلان عنه بعد سنوات قليلة، إلا أن فلسطين كانت حاضرة دائماً في واقعنا المحلي.
أما في المرحلة الابتدائية كذلك من ستينيات القرن الماضي أيضاً، فكنا نلتقي بالعناصر الفلسطينية في الصفوف الدراسية، وهم يقدمون لنا شرحاً وافياً ومستفيضا عن حياتهم، حيث كانت دائرة المعارف في دولة الكويت هي المشرفة والمنسقة لجولاتهم في كافة المدارس والطالبات كذلك من ضمنها.
هذا الوعي المبكر بتطور القضية الفلسطينية، هو الذي بقي راسخاً في عقول وقلوب ونفوس جيل الستينيات، ولا زال مستمراً رغم تغير الظروف كلياً حتى الساعة.