كانت مؤشرات الثورة السودانية التي أسقطت حكم تنظيم «الإخوان»، تفيد بأن الشعب السوداني شيباً وشباباً وصلوا جميعهم إلى قراءة وافية ليس فقط لتاريخ السودان السياسي، بل لما هو أبعد من ذلك وأشمل، فالسودانيون تعاملوا مع الثورة بواقعية الظرف التاريخي الذي وصلوا إليه بعد مسيرة عقود طويلة، أنتجت ليس مجرد الفشل السياسي، بل التعقيدات الكثيرة للفشل، بحيث تحول السودانيون إلى درجة الوعي بمتطلبات الخروج الصعب من واقعهم.
«الواقعية السودانية» كانت نقطة التقاء كافة المكونات المجتمعية والعسكرية، مع زخم الثورة الذي شهد التزاماً وانضباطاً عالياً لم يعهد في التجارب الموازية في المنطقة العربية، ظلت الواقعية سمة طاغية على المنعطفات المختلفة في الثورة السودانية، حتى مع إسقاط رأس السلطة عمر البشير، بقيت الواقعية هي التي تقود المنظومة الثورية السودانية، فالسودانيون كانوا قد راقبوا الثورات الأخرى، ونظروا إلى نتائجها، وكانوا على إدراك ووعي كامل بأن سقوط رأس السلطة البشير، لا يعني شيئاً بغير قطعهم لأذرع تنظيم «الإخوان»، الذي جثم على صدورهم من نهاية ثمانينيات القرن العشرين المنصرم.
بفضل الواقعية السياسية، استطاعت قوى الثورة السودانية بمختلف أطيافها من تشكيل القدرة الذاتية على تفكيك التعقيدات، التي كان كل مراقب للحالة السودانية يرى استحالة تجاوزها، ومع ذلك تمسك السودانيون بالواقعية، وقدموا العقلانية في التعامل على الاندفاعات العاطفية بطبيعة المد الثوري بشعاراته، التي شكلت الاعتصامات والمسيرات الشعبية الحاشدة، والتي امتازت دائماً بالانضباطية، حتى مع سقوط الشهداء والجرحى ظلت حالة الانضباط قائمة.
سقط النظام، وبدأت المرحلة الانتقالية بتوافق قائم على العقلانية، التي أدت في تلك اللحظة الفارقة إلى تشكيل الحكم الرشيد لسودان عانى لعقود من السير خلف الشعارات الثورية اليسارية في الخمسينات، والإسلاموية في التسعينيات حتى أنه وصل به الحال ليتحول إلى ملجأ ونقطة عبور للإرهابيين، حتى صُنف السودان على قوائم الإرهاب الأميركية، مما أضعف الاقتصاد، وحدّ من حيوية ونشاط التبادلات المختلفة مع دول العالم.
العقلانية حددت خيارات السودان الرشيد، فكانت الخطوة الأولى ابتعاده عن المحور التركي، بإلغاء اتفاقية ميناء سواكن، مما أكد التوجه العملي لمحور «الاعتدال العربي»، الذي ساهم عبر علاقاته بفتح أبواب لطالما كانت موصدة مع الولايات المتحدة، الاتصال المباشر مع الأميركيين كان ضرورة لفك التعقيدات المتشابكة، واستيعاب متغيرات الشرق الأوسط الجديد، والعالم المرتكز على المصالح الاقتصادية، مما يعني أن اتجاهاً لازماً بتقوية البنية الوطنية السودانية وإعادة تشكيل المجتمع والاقتصاد.
توقيع السودانيين لاتفاق السلام ووضعهم حداً فاصلاً لسنوات الحرب، كان أحد نتائج الخطاب العقلاني، الذي لم يمارس القفز على الواقع وتحدياته، فكان اتفاق السلام أحد نتائجه الطبيعية، فلقد انتفت مسببات الصراعات، التي كانت تحصل على تغذية من أذرع تنظيم «الإخوان»، الذين كانوا يعملون على إشعال الصراعات والحروب لتحقيق الاستفادة المالية، كما أن من خصائص تنظيم «الإخوان» أنه لا يمكنه العيش في بيئة آمنة، فيظل يغذي الفوضى ليبقى، وإنْ كان على دمار الشعوب، والحالة السودانية مثال لذلك.
متغيرات الشرق الأوسط وتحولاته يجب استيعابها، فاتفاقية السلام الإماراتية مع إسرائيل غيرّت ملامح هذا الشرق الأوسط تماماً، وأكدت على أن هناك رؤية قائمة على تجفيف كل مسببات الإرهاب، سواء من خلال استغلال القضية الفلسطينية أو من التردي الاقتصادي، والتردي المعرفي في المنطقة، هذه الرؤية المستقبلية أخذتها قيادة السودان الجديد، ولم تخف اتصالاتها مع إسرائيل، لعقد اتفاق سلام يفتح صفحة تعايش تتوافق مع تعايش السودانيين بعد أن أسقطوا حكم عمر البشير.
السودان يعيش منعطفاً سياسياً صنعه السوادانيون بالعقلانية، وقدرتهم على قراءة الأمور والتحولات بواقعية، واستيعاب كافة الأبعاد سواء التاريخية أو المستقبلية، ولذلك كانت القدرة على توظيفهم ما يمتلكون من موارد حالية سياسية واقتصادية، للانتقال إلى السودان الراشد، ليكون عالياً بعلو السودان ومكانته في العالم العربي.
*كاتب يمني