منذ تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومته الرابعة قبل أيام، شاع تفاؤلٌ مَشوبٌ بالحَذَر بشأن سرعة التأليف بعد التكليف. ذلك لأن الأمور، بحسب المراقبين واضحة: الجميع من فرقاء الطبقة السياسية ملتزمون ظاهراً ببنود المبادرة الفرنسية. والجميع مقتنعٌ بضرورات الإصلاح. والجميع يريد من حكومة الاختصاصيين المستقلة أن تتوجَه إلى صندوق النقد الدولي لطلب المساعدة في وقف الانهيار وإعادة إعمار المرفأ وبيروت. 
بيد أنّ الحسابات بدأت تتغير عندما باشر الحريري مفاوضات التشكيل. كان الرجل قد تعهد للثنائي الشيعي بأن تبقى وزارة المالية بيد هذا الثنائي. وكانت تلك غصّة في حلق «التيار الوطني الحر» وزعيمه جبران باسيل. وصار الأمر غير مقبولٍ تماماً عندما أصرّ الرئيس بري على وزارة الصحة أيضاً. إذ صار تيار باسيل يريد البقاء في وزارة الطاقة وربما في الوزارات الأُخرى التي كانت بيده في حكومتي الحريري الثالثة، وحسّان دياب المستقيلة.
إنّ الإصرار من جانب الثنائي ومن جانب التيار الوطني على البقاء وفي وزاراتٍ معينة، يُسقط المداورة التي جرى الاتفاق عليها. كما أنه لا أحد من اللبنانيين أو الدوليين يقبل بقاء وزارة الطاقة في عهدة «التيار الوطني الحر» وقد تولاها عشر سنوات، تسببت بحوالي خمسين مليار دولار ديوناً على الخزينة، وهي نصف الدَين العام. ثم إنّ بقاء وزارة الصحة بيد عضو في «حزب الله» يعني عدم إمكان الحصول من صندوق النقد الدولي على مبلغ خمسمائة مليون دولار الضرورية جداً للبنان في ظل وباء كورونا، وانهيار المستشفيات الكبرى بعد انفجار 4 أغسطس، وخراب ثلث بيروت! 
إنّ المتداول أنّ الدوليين (الأميركان والفرنسيين) يشددون على سلامة ثلاث وزارات في الحكومة العتيدة وعدم حزبيتها: وزارة الطاقة (لأنهم يريدون إنفاذ مشروع إصلاح الكهرباء الذي تقدمت به شركة سيمنز الألمانية)، ووزارة الأشغال (لارتباط مشروع إصلاح المرفأ بها)، ووزارة الاتصالات (لضخامة الموارد التي تؤمّنها للدولة)، إضافةً للجمارك، وضبط المرفأ والمطار والحدود البرية مع سوريا.
كيف وهل يمكن أن تتحقق هذه الأشياء أو هذه الاشتراطات؟ الحريري الذي يتفاوض باستمرار مع رئيس الجمهورية (ميشل عون) ومع نبيه بري (رئيس مجلس النواب)، يعلن باستمرار أنه متمسكٌ بالمبادرة الفرنسية، ومتمسك بالمداورة. ورغم الإصرار الشديد على السرية، فالتسليم للثنائي بالمالية، وربما بالصحة، يُضعف جانب رئيس الحكومة، ويُضعف قدرته على تجنب الضغوط من الثنائي ومن التيار الوطني، وهما الفريقان اللذان يواجهان أقسى التحديات. ف«حزب الله» يندفع لترسيم الحدود مع إسرائيل، ويريد أن يوافقه في ذلك إلى جانب رئيس الجمهورية الموافق دائماً، طرف سُنّي قوي، ولا أحد أقوى من سعد الحريري ضمن المجموعة السنية الآن. والحزب في الوقت نفسه لا يقبل رغم شدة الحاجة، بضغوطٍ للتنازل ولو في الشكل، بعد تنازله الكبير في وجه إسرائيل، وتزايد العقوبات عليه وعلى إيران، لذلك قد يتقبل أن يكون الرئيس الحريري قوياً نسبياً في عمليات التشكيل. 
وإذا كان «حزب الله» يخشى قليلاً أو كثيراً، فإن التيار الوطني في وضع أصعب: فهو الأشهر والأكثر فساداً، ومعظم المسيحيين تركوه وانسحبوا تلقائياً من تأييده، وهذا فضلاً عن أنه لا أحد يرضى أن يعود التيار لوزارة الطاقة. 
وقد يُقدم الرئيس الحريري على تنازلاتٍ غير مقبولة لتسريع تشكيل الحكومة. لكن من جهةٍ أُخرى فهو يعلم أن الرقيب عليه ليس طائفته واللبنانيين فقط، بل والدوليون أيضاً وبخاصةٍ الأميركيون الذين لا يقبلون أي تعاوُنٍ مع الحزب المسلَّح الذي تعوَّد الحريري على الضعف أمامه!
لن يطول الانتظار على أي حال. وقريباً يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية