دخلتْ مؤخراً البنوكُ المركزية في العديد من الدول على خط إصدار عملاتها الرقمية الخاصة، وبالأخص بعد أن حازت عملة الفيسبوك «ليبرا» على اهتمامات كبيرة حتى قبل انطلاقها، والذي تأجل بسبب الموقف الحازم للإدارة الأميركية، على اعتبار أن إطلاق العملات الرقمية، وبالأخص «ليبرا»، سيؤدي تدريجياً إلى فقدان واشنطن لجزء مهم من هيمنهتا وإدارتها لأسواق المال والنقد العالمية، سواء لعملات البنوك المركزية أو مواقع التواصل الاجتماعي.
التخوف من إصدارات الفيسبوك وغيرها من المؤسسات لا يقتصر على الولايات المتحدة وحدها، وإنما يشمل كافة البلدان، خصوصاً وأن النظام المالي والنقدي يؤثر بصورة مباشر وكبيرة على تطور وأداء بقية القطاعات الاقتصادية، كما أن العملات الرقمية يمكن أن تصبح خارج سيطرة البنوك المركزية، بل خارج سيطرة مؤسسات الدولة بمجملها، وبالتالي تستخدم في قنوات وأعمال غير مشروعة، كتجارة المخدرات وتمويل الأعمال الإرهابية والتي قد تضر بمصالح الدول ذاتها.
نظراً لكل هذه الاعتبارات التي أشرنا إليها بصورة مقتضبة جداً، أطلق بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) عملته الرقمية بمبلغ تجريبي ضئيل بلغ 1.5 مليون دولار لعدد محدود من المستخدمين بلغ 500 مستخدم، فاتحاً المجال أمام انضمام عدد أكبر من المستخدمين في المستقبل.
في المقابل باشرت البنوك المركزية الكبرى، بما فيها الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي وبنك إنجلترا وبنك اليابان المركزي وبنك سويسرا الوطني، العمل على وضع تصوراتها حول إمكانية إصدار عملات رقمية مع وضع ضوابط وضمانات لكيفية إصدار وتنظيم التداول الرقمي لهذه لعملات، لتبقى ضمن الأطر القانونية والتشريعية للبنوك المركزية.
وذلك يعني أن الحملة لإصدار عملات رقمية حول العالم ستشتد في الأعوام القليلة القادمة، ليس بين البنوك المركزية فحسب، وإنما بينها وبين القطاع الخاص ومؤسسات التواصل الاجتماعي، والتي ربما توفر خدمات أسهل وبتكلفة أقل من البنوك المركزية التي ستضع ضوابط والتزامات تتماشى والتشريعات المطبقة في بلدانها.
وإضافة إلى البنوك المركزية والقطاع الخاص، فإن المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي، ستتأثر أعمالها وأنشطتها بإصدار العملات الرقمية، مما دفع بصندوق النقد إلى التحذير من التعجل في إصدار هذه العملات، بما فيها تلك المتوقع إصدارها من البنوك المركزية قائلاً: «إن العملات الرقمية قد تتسبب في إزاحة العملات الوطنية، مع وجود مخاطر تتعلق بتدفق رؤوس الأموال غير المشروعة، كما أن كيفية عملها غير واضحة، مما قد يتسبب في آثار يصعب التعامل معها.
ومن حيث المبدأ، فإن العملات الرقمية ستأخذ حيزاً كبيراً خلال عقد من الآن، وسيضطر الجميع للتعامل معها بشكل أو بآخر، وهذا أمر مفروغ منه وفق تطورات الأحداث التقنية والذكاء الاصطناعي، إلا أن الأمر المهم هنا يتعلق بآليات حفظ الحقوق والالتزامات والضمانات الخاصة بالاختراقات الرقمية وسرقة البيانات والأموال، وكذلك الحد من تمويل الأنشطة غير المشروعة وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، إذ من المعروف أن هناك حالياً العديد من الجهات التي تستغل عملة «البيتكوين» لهذه الأعمال البعيدة عن الرقابة الرسمية، كما أن الكثير من المتداولين في البيتكوين فقدوا عملاتهم بسبب السطو الرقمي، وهو ما كبدهم خسائر كبيرة وتقبلوا الأمر الواقع، بسبب عدم وجود جهة مسؤولة يمكن الرجوع إليها لاسترداد عملاتهم المسروقة، على اعتبار أنها عملات «شبح» لا يتم تنظيمها من قبل جهة رسمية، كما أنه لا تضبط تداولاتها أية أنظمة أو تشريعات رسمية.
من هنا يمكن القول: إن العالم يقف أمام تغيرات مالية ونقدية مبهمة وغير واضحة المعالم وخطيرة في نفس الوقت، وهو أمر يجب التحوط له من قبل القطاعين العام والخاص، وإيجاد الأساليب التي يمكن أن تحافظ على المقدرات والأصول، بعيداً عن النصب والاحتيال المتوقع ازديادهما مع التوسع في استخدام العملات الرقمية.