«تخيل أنك تجلس في مكان ولديك 200 جارٍ، ثم تقول إنهم جميعاً أعداء. فهل تكون المشكلة فيك أم في كل هؤلاء الجيران. لقد جلب أردوغان العار إلى تركيا، لكننا سنتخلص من هذا العار». قائل هذا الكلام ليس قائداً أو عضواً في حزب معارض تاريخياً لنظام الرئيس التركي أردوغان مثل «حزب الشعب الجمهوري»، ولا أحد زعماء الأحزاب الكردية التي تتخذ مواقف جذرية ضده بسبب القمع الشديد الذي يمارسه ضد الأكراد، بل أحد أهم مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» الحاكم. إنه علي باباجان الذي كان نائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً في حكومات نظام أردوغان حتى منتصف العام الماضي عندما وصل إحباطه من سياسات حليفه السابق إلى ذروته، فاستقال وأسس حزباً جديداً هو «حزب الديمقراطية والتقدم»، الذي تحدث عن عار أردوغان أمام مؤتمره الإقليمي في مدينة غازي عنتاب في 3 نوفمبر الجاري.
ولم يكن باباجان وزيراً عادياً أدى مهمة لفترة معينة، بل كان أحد أركان نظام أردوغان، وممثله في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، قبل أن يُغلق بابه أمام تركيا فعلياً بسبب سياسات نظامها المثيرة للتوتر، ومواقفه العدائية ضد عدد متزايد من الدول، بينها عضوان في هذا الاتحاد (اليونان وقبرص).
ويعرف باباجان جيداً، وهو الذي كان وزيراً للخارجية بداية من أغسطس 2007، ووزيراً للاقتصاد ونائباً لرئيس الوزراء، قبل أن يقدم استقالته من الحكومة وحزبها في مايو 2019.. أخطار سياسة أردوغان الإقليمية العدوانية من شرق المتوسط إلى شمال أفريقيا، ومغبة فتح صراعات عدة في الوقت نفسه، ومحاولات العبث بخرائط المنطقة، والسعي إلى انتزاع جزء من موارد الغاز والنفط من دون وجه حق، في الوقت الذي يتدهور الوضع المالي والاقتصادي الذي كان جيداً قبل أن ينفرد الرئيس التركي بالسلطة، ويُحوّل الحزب الذي أوصله للسلطة إلى دُمية يتحكم فيها مع حفنة من أفراد عائلته وتابعيه الذين لا تعنيهم إلا خدمة مصالحهم الخاصة.
وقبل إدانته سياسة نظام أردوغان الخارجية في مؤتمر غازي عنتاب الإقليمي، كان باباجان قد وجه نقداً لا يقل قوة، وموضوعية في آن معاً، لسياسته الاقتصادية في المؤتمر العام الأول لحزبه في مقاطعة كارابول في 19 أكتوبر الماضي. وقال ما معناه إن الاقتصاد التركي يشهد أسوأ فتراته، وإن حفنة صغيرة من أتباع أردوغان يستنزفون موارد الشعب ويُفقرونه، وإن النقود التي بين أيدي الأتراك تفقد قيمتها كل يوم، في إشارة إلى التدهور المتزايد في سعر صرف الليرة أمام العملات الأخرى، وازدياد معدلات التضخم، وتراجع احتياطي النقد في البنك المركزي إلى حدٍ دفعه إلى بيع جزء من احتياطي الذهب في الشهر الماضي. ولم يصمد نفي نظام أردوغان التصرف في هذا الاحتياطي أمام البيانات التي صدرت من مجلس الذهب العالمي عن حركة هذا المعدن النفيس في أسواق العالم، وتضمنت من بين ما جاء فيها أن أنقرة باعت نحو 45 طناً منه. ويبدو أنه لم يكن أمام نظام أردوغان وبنكه المركزي إلا هذا التصرف بعد أن انخفض احتياطي النقد الأجنبي إلى أقل من رُبع قيمة الديون المستحقة على تركيا، إذ تراجع إلى نحو 40 مليار دولار في أوائل أكتوبر الماضي، في الوقت الذي لامست فيه الديون حدود 170 ملياراً، ومن ثم ازدياد الضغط على الليرة بشكل متزايد، بما ينطوي عليه ذلك من آثار تضخمية، ومن ثم تدهور في مستوى معيشة أعداد متزايدة من المواطنين، على نحو لابد أنه يُقلق أردوغان على مصيره في الانتخابات الرئاسية القادمة، المُقرر أن تُجرى في يونيو 2023، بل ربما لا يستطيع الاستمرار حتى هذا الموعد.
وليس باباجان وحده الذي يتوقع أن أردوغان لن يستطيع الصمود حتى عام 2023، إذ يشاركه هذا الاعتقاد غير قليل من السياسيين الأتراك الذين يدركون العواقب الوخيمة لسياسات أردوغان، منذ أن انفرد كلياً بالسلطة عقب تعديل الدستور عام 2017. وبينهم بعض حلفائه السابقين، الذين أسسوا معه الحزب الذي يهيمن عليه بمفرده الآن. وقد توسعت قائمة هؤلاء الذين كانوا حلفاء، وصاروا اليوم خصوماً سياسيين بعد أن أدركوا الخطر الذي يحيق بوطنهم، مثل رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو الذي كان بمثابة عقل «حزب العدالة والتنمية» قبل أن يستقيل ويؤسس «حزب المستقبل» الذي انضم إلى المعارضة، وغيرهما في ضوء المؤشرات إلى ازدياد الإحباط في قطاعات متزايدة من المواطنين الأتراك.