طويلاً جداً حاججت الولايات المتحدة العالم بفكرة استثنائيتها، وكونها المدينة فوق جبل، تلك التي تنير للعالم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والفرص المتساوية. إنها الحلم الذي شاع وراج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، ونشوء النظام العالمي الجديد منفرد القطبية.
والشاهد أنه منذ أوائل التسعينات وحتى الساعة ثلاثة عقود عرفت فيها أميركا والعالم تغيرات واسعة وشاسعة من جهة، ومن جهة ثانية بدا واضحاً أن جيوبولتيك العالم المتغير، لم يعد يحفظ لأميركا موقعها وموضعها السابقين. على مرمى نحو شهرين من رئاسة أميركية جديدة، بقيادة الرئيس «الديمقراطي» السادس والأربعين جوزيف بايدن، إنْ لم تتغير دفة الأحداث عبر المحكمة الدستورية العليا لصالح ترامب من جديد، يتساءل الأميركيون: «هل الرئيس بايدن قادر بالفعل على وضع أميركا في مكان القيادة والريادة العالمية من جديد؟».
يعن لنا أن نشير إلى أن البيت الداخلي الأميركي مجروح إلى أبعد حد ومد. وهناك جدل كبير دائر حول هوية الولايات المتحدة الأميركية، وهل هي لا تزال «بوتقة الانصهار»، و«حساء الطماطم»، كما عرفت منذ عهود الآباء المؤسسين. أم إنها فسيفساء أو صلصة مكونة من شعوب متباينة؟
هذا التساؤل الجذري يقتضي كلاماً مطولاً، ربما يتحتم علينا العودة إليه ذات مرة بشكل موسع، غير أن مجرد الإشارة إليه أمر يعني أن هناك خللاً ما في الداخل ينبغي على إدارة بايدن الاهتمام به أولا، وقبل التطلع إلى النموذج الخارجي.
أمام الإدارة القادمة عقبات غير مسبوقة، في مقدمها الجائحة التي لا يعلم أحد إلى أي مدى أو منتهى ستصل بالأميركيين، وحتى ما يطفو على السطح من أنباء عن عقار جديد فاعل بنسبة 90%، بدا البعض يرى المشهد مكيدة سياسية تم تدبيرها ضد الرئيس ترامب.
الإشكالية الثانية هي الأوضاع الاقتصادية الأميركية. وقد بلغت الديون الخارجية الأميركية مبلغاً غير هين، وأضحى الرقم يخيف الأميركيين، لا سيما بالنسبة لمستقبل الأجيال القادمة. وهذا ما أشار إليه مؤخراً رئيس البنك الفيدرالي الأميركي، عطفاً على أرقام البطالة المتوقعة جراء إغلاقات جديدة قد تأتي بها الأيام، في محاولة لمواجهة كوفيد -19. أما الأزمة الجوهرية الثالثة، والتي تتقاطع بالسلب مع حلم بايدن، فموصولة بالنسيج المجتمعي الأميركي، ذاك الذي وصل به الاهتراء حد تصويت 74 مليون مواطن لبايدن – إن كانت الأرقام صحيحة، و70 مليون صوتوا لترامب، أي أن الانقسام والتشظي ظاهران للعيان، والخوف من التفكك والتفسخ الرابض خلف الباب متشوقاً أن يتسيد على أميركا. السؤال المثير: «هل لدى الرئيس الجديد ترف الالتفات إلى الملفات الخارجية، والدخول في إشكاليات تقليدية من حقوقيات وحريات وإنسانيات، في ما هو غارق في الداخل. وفي مواجهة شعبوية متنامية ، وترامبية متصاعدة حتى وإن توارى الرئيس ترامب عن الأعين؟
في مقال أخير له عبر مجلة «فورين أفيرز»، الأميركية ذائعة الصيت، يتساءل بايدن: «لماذا على أميركا أن تقود من جديد؟». تبدو سطور مقال بايدن بعيدة كل البعد عن إدراك واقع الحال الجيوسياسي، وتراجع المكانة الأميركية على أصعدة جوهرية عدة، وإنْ بقيت قوة عسكرية قادرة متى رغبت، إذ فقدت الكثير من مربعات النفوذ طوال العقدين الماضيين، كما أن الحلم الأميركي انزوى في ضمائر وعقول غالبية شعوب العالم. هل يتحقق حلم بايدن؟ سؤال في رحم الغيب، رغم الجواب الواضح للعيان.
*كاتب مصري