تناولتُ في مقال سابق ذكرى مرور 75 عاماً على إنشاء جامعة الدول العربية من دون الإشارة إلى محصلة تلك الأعوام من العمل والجهد العربي المشترك، بصرف النظر عما تعرضت له الجامعة من مطبات وعثرات نتيجة صراعات إقليمية وأحداث أربكت المشهد العام، وفرقت مواقف الأشقاء، وأدّت إلى ما آلت إليه الأوضاع التي نعيشها حالياً من الإخفاقات غير المسبوقة، حيث تُلقي الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء بظلالها على فاعلية الجامعة، وتضعف تأثيرها في العديد من الملفات والأزمات، بداية من ليبيا إلى سوريا والعراق واليمن ولبنان. وهناك مواقف مُسبقة من بعض الأعضاء للإبقاء على الجامعة كمؤسسة إقليمية محدودة الفاعلية، مع توجيه السهام إليها بشكل دوري، وذلك بهدف تجميد مؤسسات العمل العربي المشترك، لا بل أصبحنا نسمع أصواتاً تطالب بطي صفحتها، وذلك من مبدأ أن لا أمل بإصلاحها.
لكن ومن موقف شخصي أؤكد أن (ما لا يُدرك كله لا يترك جله)، علّي أُنعش الذاكرةَ بأهمية وحتمية وجود الجامعة ودورها في دعم القضايا العربية، فثمة بصيص أمل ونقطة ضوء تبدو في نهاية النفق المظلم، خصوصاً إذا نظرنا إلى التعاون الاقتصادي العربي الذي يعتبر جيداً في ظل نمو التجارة البينية العربية سنوياً بمقدار 14%.
على مدار تاريخ الجامعة العربية كان الملف الاقتصادي أحد أبرز اهتماماتها ونجاحاتها ولا سيما في العقدين الأخيرين. ولعل أبرز نجاح في مسيرة التعاون الاقتصادي العربي يتمثل بقرار إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى عام 1996، وهو الأمر الذي تحقق على أرض الواقع عام 2005، فتم تبادل السلع مع الإعفاء الجمركي والضريبي.
وبعد مرور 15 عاماً على إنشاء المنطقة، ارتفعت قيمة التجارة البينية للدول الأعضاء من 15 مليار دولار عام 1997 إلى نحو 110 مليارات دولار عام 2018، كما ارتفعت نسبة التجارة البينية العربية لتمثّل نحو 12% من التجارة الخارجية للدول مقابل 5% قبل إنشائها، ومع بداية يونيو القادم ستدخل حيز التنفيذ قواعد المنشأ التفصيلية بهدف ضمان استفادة السلع العربية فقط من هذه المزايا الممنوحة.
إن تطوير التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء مستمر، وبناءً عليه سيتم اعتماد اتفاقية تحرير تجارة الخدمات من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي بعد أن قدمت 11 دولة جداول التزاماتها، وصدقت عليها في نوفمبر الماضي كل من الإمارات والسعودية والأردن ومصر.
هذا النجاح الملموس في الملف الاقتصادي يبشر بالخير، ويُمكن أن نبني عليه بالنسبة لبقية الملفات، ذلك أن أي حديث عن مستقبل الجامعة العربية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كيفية رؤية الدول العربية للترتيبات الأمنية، ودراسة فكرة إحياء النظام الإقليمي العربي من خلال قراءة واعية لما يجري في المنطقة على ضوء التحديات الخارجية – وهي بلا شك تمثل خطراً كبيراً برأيي – والتي تدعو إلى إقامة نظام شرق أوسطي جديد على أنقاض النظام الإقليمي العربي الحالي، فتدخّل دول مثل تركيا وإيران وغيرهما يسهم في قلب الطاولة ويؤسس بالتالي لمرحلة من المهام الكبرى لنظام فوق عربي، إلى حين إعادة ترسيم الوحدات السياسية والجيواستراتيجية الجديدة في الإقليم، الأمر الذي سيغير بالضرورة السياسات العربية وموقعها الأصيل، والنظام الإقليمي العربي ذاته، كما ستكون الدول العربية جزءاً من النظام الجديد من دون أن تكون لها سيطرة عليه، وهو أمر يشكل مخاطرة كبيرة على وضع المؤسسات والمنظمات العربية، وعلى مصير شعوبها ومستقبل أجيالها، والذي يخال لكثيرين بأنه سيكون في مهب الريح.
فهل ننتبه ونتحرك قبل فوات الأوان، أم نستسلم لمصير محتوم؟