ليس هناك اختلاف على رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وكذلك الأمر في السياسة الدولية. هناك العقلانية والواقعية المرتبطة بالاستراتيجيات والخطط والأهداف الواضحة، وهناك التخبط والعشوائية والفوضى، ومن السهل دائماً، التمييز بينها.
التصرف بواقعية وعقلانية سمة مهمة وضرورية، فبين ما تريده الدول وتسعى لتحقيقه، وبين إمكانياتها الحقيقية وشبكة علاقاتها، ثمة واقع لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن القفز عنه، وأيضاً هناك فرق شديد بين من يتصرف بواقعية دون ضغوط وبين من يعمل في ظل الضغوط الخانقة، التي تجبره على اتخاذ مسارات قد لا يريد المضي بها.
في سياسة الدول، لا يمكنك تحويل «الخصومة» إلى «صداقة» بكلمة، هذه حقيقة يدركها السياسيون المخضرمون، بل يلزمك أفعال حقيقية، يراها المجتمع الدولي. تلك الأفعال التي تحتاج إلى شجاعة استثنائية، سواء بفتح قنوات اتصال خلفية، تمهد لزيارات محتملة، أو مبادرات لعقد مؤتمرات وقمم تسمح باللقاء المباشر، وتبادل وجهات النظر. وعلى سبيل المثال، فبعد كل ما فعله الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تجاه دول خليجية، كالسعودية والإمارات، سواء بالتصريحات والبيانات أو بالمناكفات، وما يفعله في سوريا وليبيا والعراق، عاد مؤخراً يعرض فتح صفحة جديدة، ويلقي خطاباً مشوشاً حول حاجة تركيا إلى إعادة العلاقات مع الدول العربية والخليجية على وجه التحديد! لكنه في الوقت ذاته، لم يقم بأي فعل سياسي أو دبلوماسي، يؤكد نيته الحقيقية للشروع في ذلك!
المتخبطون لا يمكنهم تخطيط سياسة استراتيجية واضحة وفعالة للعلاقات الدولية، أو العلاقة مع الجوار على الأقل، فهم لا يدركون قيمة وأهمية ذلك، فتجد كثيراً من التناقض في ما يفعلونه. ولا يمكن التنبؤ بسلوكهم وقراراتهم ليوم واحد فقط. قطر مثلاً، ومنذ عام 1995 ولغاية اليوم، لم يجد أي محلل للسياسات الدولية أي رؤية حقيقية للنظام هناك. ولا يعرف أحد ماذا يريدون من الخليج العربي أو من الدول العربية أو من أميركا وأوروبا، وبقية دول العالم.
فبينما يسعى المجتمع الدولي كله دون استثناء، لتحقيق المصالحة والاستقرار في ليبيا، عبر الحوار والمناقشات السياسية التي جرت في المغرب وتونس مؤخراً، وكذلك في اللجان العسكرية (5+ 5)، تفاجأ العالم بقطر تهرول متخبطة في اللحظات الأخيرة، لتوقيع اتفاقية تعاون عسكري مع «حكومة الوفاق»، في محاولة لاستفزاز الليبيين، وضرب المصالحة الشاملة بين الأطراف، ولتكون تلك الاتفاقية حجر عثرة أمام الحل السياسي الليبي.
العقلانيون، يفكرون بالأمن، بل يضعونه في أول أولوياتهم. وكلما امتدت المساحة التي يمكن جعلها آمنة، داخل وخارج الحدود، وكما يقولون، حتى أقاصي الصين، كانت النتائج مثمرة ومنتجة في الصعد كافة. ويتحقق الأمن بفتح جميع القنوات الأمامية والخلفية على المستوى الثنائي، الدول القوية تفعل ذلك، فلا تستغرب مثلاً أن تكون لإسرائيل قنوات خلفية مع سوريا، على سبيل المثال فقط، مهما بدت صغيرة، وقد لا تكون على المستوى الرسمي، بل بين شخصيات يمكنها تدارك وقوع حرب فجائية.
بين العاقل والمتخبط، هناك عدد من الفروقات التي لا يمكن تجاوزها. العاقل يتمتع بصفة الثقة بالنفس، يُقدم على الخطوات، بعد حسابات دقيقة تستعرض أوجه النتائج المحتملة كافة، ولا يترك شاردة أو واردة لا يضعها في اعتباراته. أما المتخبط المهزوز، فيقوم بالخطوة مندفعاً متحمساً، قد يكون بناء على رأي مستشار لديه مصالح خاصة، أو إملاء خارجي يدفعه لتلك الخطوة، وبعد ذلك يجد نفسه متورطاً في منظومة أشد تعقيداً. وكل ما يحدث في تركيا وإيران وقطر، خلال السنوات القليلة الماضية، يعكس مدى التخبط والعشوائية، فأصبحت قطر مُقاطعةً من جيرانها، وأمست تركيا معزولة عن العالم، وباتت إيران تخضع لعقوبات عالمية شديدة.
تعزيز التعاون الإستراتيجي، يحتاج إلى الرؤى والاستراتيجيات الواضحة، كذلك يحتاج إلى التنسيق المعلوماتي المسبق، وفتح القنوات جميعاً، ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً بالأهداف التي تلتقي حول إحداثية ما، فحين تكون الرؤية والهدف المشترك هو مثلاً مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، فيجب أن يكون الطرفان يملكان تلك الاستراتيجية ولديهما الخطط والأعمال التي تم تنفيذها مسبقاً لتحقيق ذلك، كالإمارات مع السعودية، أو التعاون الاستراتيجي بين الإمارات والولايات المتحدة أو إسرائيل، حيث أصبح هدف مكافحة التطرف والدعوة للسلام هو أساس التعاون الاستراتيجي بين الدولتين.