بعد إعلان فوز بايدن بالرئاسة، دأبت وسائط التواصل الاجتماعي والشاشات التلفزيونية، والصحف، والإذاعات.. على الاهتمام المتجدد بأسئلة لا تختلف في جوهرها عن دورها أثناء الحملات الانتخابية بين المرشحين، وبعدها. والسؤال الذي يتكرر في العديد من هذه الميديا: هل في رأيك يستطيع بايدن أن يرمم الانقسام العميق بين مكونات الشعب الأميركي؟
هذا السؤال يتضمن الجواب! سؤال في صيغة جواب، وجواب في صيغة سؤال يؤكد يقيناً أن هناك فعلاً انقساماً (أو مشاريع تقسيم، أو تقطيع أوصال أو انشقاقات) وهذا غير دقيق، بل وغير واقعي. لقد رأى بعض هؤلاء أن تقارب النتائج بين بايدن وترامب نذير يوحي بانقسام الأميركيين. وهذا خطأ تاريخي: وهل شكل تقارب الأصوات بين ترامب وهيلاري كلينتون «قطيعة»؟ وهل شكل التقارب بين آلغور وبوش الابن انقساماً، حتى عندما أحيلت هذه المسألة على المحكمة العليا؟
أنا شخص عرف مرارة التقسيم في بلدي وما يعنيه وما يجسده: خطوط تماس مذهبية بين المناطق، وقتل على الهوية، وتدمير مدن كاملة، وسيطرة الميليشيات في كونتونات مستقلة، وزوال الدولة، وانقسام الجيش والمؤسسات، وقصف عشوائي متبادل على المناطق.. إلخ. فهل شاهدنا قبل الانتخابات الأميركية، وأثناءها وبعدها، مثل هذه الظواهر، أي ظهور المسلحين وبعض أشكال العنف هنا وهناك؟ على أية حال بدت عابرة. فمصطلح «الانقسام» (أو «القطيعة») الذي استخدمه البعض على أميركا سبق أن استخدمه أمثالهم في فرنسا، لأن أحزابها «متناحرة» مقسَّمة بخلفياتها الأيديولوجية والسياسية، حيث تكررت مقولة نهاية الديمقراطية في فرنسا، وكذلك نهاية الديمقراطية في أميركا، بل راح بعض الإعلام، من باب التهويل، يروّج لـ«نهاية أميركا نفسها» و«ما بعد أميركا».. ومثل هذه التوجهات غزت وسائل الإعلام، قبل الانتخابات، حتى ذهب بعضها إلى احتمال انشقاق بعض الولايات عن الدولة المركزية، أو أن الأميركيين يستعدون لحرب أهلية!
إن كل هذه التوترات والعناوين التشاؤمية المخيفة أسقطها مسار الانتخابات السلسة والهادئة، حتى بعد الإعلان غير الرسمي عن النتائج، وكانت ردود فعل «الجمهوريين» في الشارع سلمية، تقتصر على الاحتجاجات وعلى شرعية بايدن أو عدمها.. أي لم تصدمنا لا رؤى الميليشيات المسلحة في الشوارع، ولا التظاهرات العنيفة، ولا تحطيم المحال والسيارات.
هل هي أزمة مصطلح؟ إن عبارة «تقسيم» تعني قطيعة سياسية واجتماعية، يتحول فيها الناس إلى أعداء بعضهم البعض، ونظن أن أفضل تعبير عن الحالة السائدة في الولايات المتحدة هو «الاختلاف»، وهو من صميم النظام الديمقراطي، وكذلك التنوع. لم يحصل بايدن لا على كل الأفارقة ولا على كل اليهود، ولا على كل المسلمين، وفي المقابل لم يحصد ترامب كل البيض والإنجيليين وحتى اللاتينيين.. أي أن أصوات المقترعين اختلطت: أيعني ذلك تقسيماً أيضاً؟ إنه اعتراف علني بالآخر: لم نجد تسوناميات بل تنافساً.. ولا صراع أعداء بل اختلاف مواطنين.
ونستنتج من ذلك كله: أن هؤلاء المبشرين بـ«التقسيم» كانوا ينتظرون أن ينال أحد المرشحين 99 بالمئة من الأصوات كالتي كان ينالها بعض الرؤساء العرب... لترسخ نتائجها الجاهزة الوحدة الوطنية المفقودة. إنها الأنظمة التوتاليتارية التي تقضي على التعدد.. بأحادية الحزب الواحد تحت عنوان الوحدة الوطنية!