خسر لبنان جزءاً مهماً من ثرواته المحفوظة في الأصول، مع استمرار أزمة مركبة يشهدها حالياً، وتتجاذبها الخلافات السياسية التي تعرقل تشكيل حكومة جديدة تتولى عملية «الإصلاح والمصالحة»، وقد حذّر وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزنه من استمرار الطبقة السياسية في تأجيل الإصلاحات الأساسية، لإطلاق المساعدات الخارجية، لأن ذلك قد يعني «نهاية لبنان»، مؤكداً تأييده لمبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تعهد بتقديم دعم مالي دولي للبنان مقابل إصلاحات تكافح الفساد، لكن يبقى على السياسيين تنفيذها بالكامل. 
وتعكس مؤشرات صندوق النقد الدولي مدى خطورة انهيار الاقتصاد اللبناني، خصوصاً لجهة تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 52.5 مليار دولار في العام الماضي إلى18.7 مليار دولار العام الحالي، مترافقاً مع تضخم في الأسعار بمعدل 85.5%، وتراجع الناتج الفردي من 7660 دولاراً إلى 2740 دولاراً، بالإضافة إلى عجز في الحساب الجاري بقيمة 3 مليارات دولار. وذلك في ظل اقتصاد مدمر، واختناق مالي، ووضع نقدي قاتم، وتزامناً مع فوضى واضطرابات أمنية واجتماعية، دفعت أكثر من نصف اللبنانيين إلى الفقر، وأصبح 40% منهم عاطلين عن العمل، الأمر الذي جعل الميسورين منهم يعيشون هاجس الحفاظ على ثرواتهم التي أصبحت مهددة بالذوبان والتبخر. حتى أن احتياطي مصرف لبنان الذي سبق أن سجل رقماً قياسياً بلغ 45 مليار دولار، تراجع بشكل كبير إلى أقل من 17 مليار دولار معظمها تعود للمصارف التجارية تنفيذاً للإيداع الإلزامي.
ورغم انخفاض عجز الميزان التجاري (الفارق بين الاستيراد والتصدير) بنسبة 60% (من 11.4 مليار دولار عام 2019 إلى 4.6 مليار دولار العام الحالي) نتيجة خفض الاستهلاك بنسبة 70%، بسبب شح الدولار وتدهور قيمة الليرة وارتفاع الأسعار.. فقد ارتفع عجز ميزان المدفوعات بنحو 10 مليارات دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري.. وهو يمثل صافي الأموال التي دخلت لبنان وتلك التي خرجت منه، ويؤشر هذا العجز الكبير الذي يتوقع أن يتجاوز 12 مليار دولار بنهاية العام، إلى عمق الانهيار الذي وصل إليه القطاع المالي، بدخوله مرحلة اختناق حرجة لا يمكن الإفلات من تداعياتها المدمرة على كامل المنظومة الاقتصادية، لاسيما مع قرب نفاذ الاحتياطات بالعملات الأجنبية، وتعذر توفير الدعم التمويلي للسلع الاستراتيجية والأساسية. 
وهناك محطتان بارزتان، تؤشران إلى المخاطر السلبية لتطور ميزان المدفوعات، الأولى حدثت في أغسطس 2019 عندما قرر مصرف لبنان إعادة تصنيف ودائع من القطاع الخاص بقيمة 1.4 مليار دولار، توازي قيمة الوديعة من «غولدمان ساكس» من بند «التزامات طويلة الأجل» إلى بند «التزامات خارجية». أما المحطة الثانية فكانت في يوليو الماضي عندما سجل ميزان المدفوعات عجزاً قياسياً بلغ 3046 مليون دولار، من بينها 2779 مليون دولار سحبت من مصرف لبنان، ونحو 260 مليوناً فقط سحبت من المصارف التجارية. وفي الوقت نفسه ورد في الموقع الإلكتروني لـ«المركزي» ما نصه: «اعتباراً من تموز (يوليو) 2020 أعيد تصنيف جزء من الودائع الطويلة الأجل لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي، والتي أودعت في عام 1998». كذلك تبين أن قيمة المبالغ في محفظة العملات الأجنبية تراجعت بنحو 2.3 مليار دولار.
ومن الطبيعي أن تحدث هذه التطورات السلبية، نتيجة تدهور الوضع المالي، وتراجع ثقة المجتمَعَين العربي والدولي بلبنان، بانتظار توافق اللبنانيين على تشكيل حكومة «مصالحة» بين اللبنانيين أنفسهم، وبينهم وبين الدول الشقيقة والصديقة، تكون قادرة على مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاح المالي والاقتصادي، وتوفير الاستقرار الأمني والسياسي، لاستعادة «الثقة المفقودة».
    
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية