عندما قابلت الإمام الصادق المهدي لأول مرة في بداية التسعينيات، قلت له إن مساره يذكرني بمسار الزعيم الوطني المغربي علال الفاسي الذي ينحدر مثله من وسط الأرستقراطية الدينية التقليدية، ويتبنى مثله خطاباً فكرياً إسلامياً متشبعاً بالقيم والمفاهيم الليبرالية، وكلاهما أسس حزباً هاماً له أداؤه وتأثيره الواسع في الساحة السياسية. بيد أن خصوصية المهدي تتمثل في كونه ابتلي بالأحكام العسكرية التي تدخلت كل مرة لتقويض التجربة الديمقراطية التي كان الصادق المهدي رمزها.
في المرة الأولى اصطدم بالرئيس العسكري جعفر النميري وواجهه في حقبته اليسارية، كما واجهه عندما رفع شعار تطبيق القوانين الإسلامية سنة 1983 وانضم إلى الثورة التي أطاحت به في أبريل 1985، وانتُخب رئيساً للحكومة من سنة 1986 إلى سنة 1989، قبل أن يسقط نظامه على يد تحالف عمر البشير وحسن الترابي.
لم ينخدع الصادق المهدي بما أطلق عليه الترابي أوانها «المشروع الحضاري الإسلامي» لـ«ثورة الإنقاذ»، وحارب بقوةٍ الديكتاتورية العسكرية الإخوانية، كما حاول بقوة انتشال وجه السودان الموحد والمتنوع دينياً وقومياً، قبل تضحية البشير بجنوب البلاد الذي انفصل في يوليو 2011 عن الدولة الأم. 
انضم الصادق المهدي إلى انتفاضة التغيير ضد البشير عام 2019، وكان دوره فاعلاً في ترشيد الحراك الشعبي وإنضاجه، ثم في تحقيق المصالحة الشاملة والتسوية السياسية مع المؤسسة العسكرية، وفقاً لما توثِّقه شهادة الوسيط الأفريقي وزير الخارجية الموريتاني الأسبق محمد الحسن ولد لبّات، في كتابه الهام الصادر مؤخراً بعنوان «السودان على طريق المصالحة».
ولم يشغل العمل السياسي الكثيف الصادق المهدي عن الكتابة الفكرية الرصينة، فكتب نصوصاً كثيرة حول الموضوعات الدينية والاجتماعية، من أهمها نظريته في الدولة وعلاقة الدين بالسياسة.
كان المهدي واسع الاطلاع على أدبيات الفقه الإسلامي وكتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، كما كان على دراية شاملة بكتابات الأيديولوجيا الإسلامية السياسية في مختلف صيغها واتجاهاتها، ولقد طور أطروحته الخاصة في الدولة والشرعية الدينية.
لقد انطلق المهدي في نظريته الدينية السياسية من ضرورة الفصل المزدوج بين دولة الخلافة والدولة الوطنية الحديثة، وبين المرجعية الدينية للإرادة الشعبية والمرجعية القانونية المدنية للدولة، بصفتها حقل التعبير عن المواطنة الحرة المتساوية.
وقد وقف المهدي بشدة ضد محاولات ابتعاث التجربة التاريخية للأمة في الشأن السياسي، سواء بإحياء دولة الخلافة كما هو شأن العصابات الداعشية وبعض الاتجاهات السلفية المتشددة، أو باعتماد مقولة ولاية الفقيه كما هو شأن بعض اتجاهات التشيع المؤدلج الثوري. وفي الاتجاه نفسه رفض التصور الإخواني للشريعة بصفتها قانوناً مميزاً للشرعية الدينية للدولة، وفق مبدأ الحاكمية الإلهية المطلقة، واعتبر أن أحكام الشريعة هي ضوابط ومحددات ومعايير تطبق حسب ظروف وخصوصيات السياق المكاني والزماني، ولا يمكن فرضها على الناس بالإكراه أو توظيفها للاستبداد والتسلط والإقصاء، كما أن الربوبية الإلهية تختلف جوهرياً عن مبدأ السيادة التي يتمتع بها الشعب في اختياره لنظامه السياسي ولحكامه الشرعيين. 
لقد دافع الصادق المهدي، بوضوح لا لبس فيه، عن نموذج الدولة الوطنية الحديثة واعتبره الخيار المؤسسي الوحيد المتاح حالياً للمجتمعات المسلمة، كما تبنَّى مفهوم المواطَنة الذي يقوم عليه هذا النموذج، واعتبرها التجسيد لقيم المساواة والعدالة الإسلامية. 
كان الصادق المهدي، على عكس خصمه حسن الترابي، يرى أن السودان يمكن أن يقدم تجربة فريدة للتعايش القومي والديني في أفريقيا والعالم العربي، على أساس الجمع بين حقوق ثلاث: حق التنوع القومي لا على أساس الهويات العرقية المغلقة وإنما على أساس التمايز الثقافي الثري، وحق التنوع الديني الذي يضمن مشاركة جميع المواطنين في الشأن العمومي حسب معايير المواطنة الدستورية الجامعة دون التنكر لانتماءاتهم العقدية، وحق التنوع السياسي الذي يكفله دستور ديمقراطي يسمح بممارسة الحريات الأساسية دون تقييد أو ضغط.
وقد خلُص بعد سقوط نظام البشير إلى أن المأزق الذي دخل فيه السودان هو الاستقطاب غير المسبوق حول المسألة الدينية في مجتمع عرف بتدينه المتسامح وانفتاحه الفكري، فكانت الجريمة الكبرى لتجربة «الإسلام السياسي» السوداني هي كسر هذه الصورة وتحويل الدين إلى أداة للتسلط والإكراه، بما يعني العمل على إصلاح الخلل والسعي من أجل الرجوع إلى الإسلام الأهلي الذي لم يمنع قادة الحركة الوطنية وبُناة الدولة من التشبّع بالثقافة الليبرالية الحديثة.
رحل الصادق المهدي قبل أن يكتمل مشروعه، وكان له أمل واسع في حركة التغيير والتجربة الانتقالية الحالية.
رحم الله الصادق المهدي وإنا لله وإنا إليه راجعون.