في انتظار الطفل حافلة مدرسته أمام باب منزل أسرته، وفي دخول الطالب قاعة المحاضرات في جامعته، وفي ولوج الموظف مبنى جهة عمله، وفي تهيئة التاجر بضاعة محله استعداداً ليوم جديد، وفي عبور المسافر نقطة التفتيش ودخول الدولة، وفي نزهة الأسرة في ربوع الصحراء في يوم إجازة، وفي إشراقة صباح كل يوم على أرض الوطن التي يعيش عليها الجميع.. في كل هذا يحضر الشهيد الذي دفع أغلى ما لديه لينعم الوطن وناسه وأهله والمقيمين فيه بالأمن والاستقرار.

والعلم إذ يرفرف عالياً خفاقاً يحيي موقف الشهيد، والوطن إذ يسير في درب التقدم يتزود بتضحية الشهيد، والحق إذ ينتصر ويعلو فبهمة الشهيد، والميزان إذ يستقيم ويعتدل فبساعد الشهيد، ولا قضية أكثر عدالة كقضية الشهيد، والجمال في أبهى صوره جمال الشهيد.
هذه هي العظمة التي لا عظمة بعدها، وهذه هي المنزلة التي لا تضاهيها منزلة؛ الشهيد وحده الحاضر مع الجميع، ويحرس الجميع، ويذود عن الجميع، ويعمل إلى آخر قطرة من دمه من أجل الجميع، فنحن نعمل ونكد ونجتهد ونتصبب عرقاً، والشهيد وحده الذي يضحي بحياته كلها، حتى لا تعود تضحياتنا تذكر في مقابل تضحياته، ونحن نكسب من سعينا في هذه الدنيا عاجلاً، إذ الإنسان مفطورٌ على حب العاجلة، والشهيد وحده الذي يجني الثمار آجلاً، ونحن جميعاً نقطف زهور ما زرعناه، والشهيد وحده يقطف زهرة حياته ويقدمها لنا بنفس راضية.

وكلنا مشغولٌ بصخب الحياة والموت من ورائنا ينادي بصوت خفي، والشهيد وحده الذي ينادي على الموت بأعلى صوته، وكلنا نسير والموت يتعقبنا في كل خطوة نخطوها، والشهيد وحده السائر إلى الموت بقدميه، لا حباً في الموت، ولا كراهية في الحياة، وإنما حباً في الحياة نفسها، يحب الشهيد الحياة، لكن الحياة الكريمة دونها التضحيات، والحياة الآمنة دونها الأرواح، ولحياة الناس يضحي الشهيد بروحه وحياته.

وفي كل مرة يكتب المرء عن الشهداء يرى نفسه وقد ملء البياض أمامه بحبر الإنشاء والتعبير والأوصاف والمشاعر، ولم يقل رأياً واحداً، فلا رأي مع الشهيد، وأنت تقف أمامه بإجلال، مستحضراً معاني الفداء والتضحية، ثم تتزوّد من موقف الشهيد بالثبات والبطولة، ثم تقسم بروحه إنك ماضٍ على العهد، وجدير بحمل الأمانة، ثم تؤدي التحية، وتمضي وقد ازددت عزة وفخاراً.

كلما مدينون للشهداء: أنا وأنت والطفل والأب والأم والطالب والموظف والتاجر، بل الحياة نفسها مدينةٌ لهم، والأيام الهائنة مدينةٌ لهم، والصباحات السعيدة مدينةٌ لهم، والمساءات الهادئة مدينةٌ لهم، والسماء الزرقاء مدينةٌ لهم، والبحر الساكن مدينٌ لهم، والرمال الصفراء الناعمة مدينةٌ لهم، والشجر الأخضر مدينٌ لهم، وكل ما يدب على الأرض مدينٌ لهم، لكن لا يمكن الوفاء بهذا الدين الثقيل جداً إلا باستحضار الشهداء في كل لحظة، والدعاء لهم بجنان الخلد، رحمة الله على شهداء الإمارات الأبرار.