في مسيرة كتابة وتدوين التاريخ العربي- الإسلامي، كان هناك مفاصل غاية في الخطورة شكلت مجمل خطايا التاريخ فيما بعد، وساهمت - من خلال قراءتنا للتاريخ نفسه- بتشكيل وعي مشوه وممسوخ حتى اليوم.
من تلك المفاصل الخطيرة، كان مفهوم «الجاهلية» الذي تم ترسيخه اصطلاحاً ليغطي جغرافيا الجزيرة العربية (وانسحب على بلاد الشام وشمال أفريقيا بتوقيت انتقائي)، وتم توقيته بمرحلة ما قبل ظهور الدعوة الإسلامية ليصور كل تلك الحقب التاريخية السابقة مباشرة للإسلام بأنها عتمة مطلقة وفراغ صحراوي، لا حياة فيه ولا تفاصيل، إلا شرذمة من بشر تعيش حياة رجل الكهف وأخلاقه، فلا قوانين تنظم العلاقات، ولا أخلاقيات مدنية تضبط الحياة.
لكن أي جهد بسيط إضافي في قراءة تاريخ هذه «الجاهلية» المزعومة ومن مصادر تاريخية موثوقة ومحكمة، تكشف ببساطة أن تلك الحقب التي أريد لها حتى اليوم أن تكون معتمة وخاوية بلا تفاصيل كانت عكس ذلك، بل كانت متخمة بالتفاصيل والحضارات والحواضر المدنية، حتى في مجاهيل الربع الخالي الذي يتخيله الكثيرون كثباناً من رمال، بل إن تلك الحواضر بكل تفاصيلها الضاجة بالحياة كانت متواصلة مع العالم القديم بكل اتجاهاته وثقافاته ودياناته وطوائفه ومذاهبه.
لم تكن شخصيات «ما قبل الإسلام» كما صورتهم الكتب الكلاسيكية للسلفية بتلك الصورة الكاريكاتورية، التي استلهمتها السينما العربية، وهي تصور أفلام التاريخ الإسلامي، ومن بين تلك الشخصيات مثلاً ما اعتاد العرب على أن يكون مثالاً للوفاء، فقالوا «أوفى من السموأل»، وهو الاسم المعرب لشيموئيل، اليهودي العربي الذي استأمنه امرؤ القيس على أسلحته، وكان شموئيل سيد قومه ووجهاً من وجوه العرب الكبار، بل ومن فحول الشعراء.
ومن منا لم يسمع بالمثل الذي نتداوله حتى اليوم بقولنا «أكرم من حاتم الطائي»، فحاتم الطائي ابن قبيلة طيء بقي حتى اليوم مضرب المثل في الكرم، وكان مسيحياً ملتزماً بإيمانه هو وقومه، لهم تفاصيل حياتهم التي تشمل التجارة والسفر والتواصل مع حواضر الشام، وما تخلل ذلك من مصاهرات ونسب.
ومن دواعي الدهشة عندي قبل أيام في موسم أعياد الميلاد المجيد هنا في مهجري البلجيكي، أني استمعت لمحاضرة من صديق مسيحي متنور ومتعلم، يتحدث فيها عن قصة ميلاد المسيح حسب رواية الأناجيل، فيشير إلى أن «المجوس» الذين يحتفل برمزيتهم العالم كله في كل عيد ميلاد، وقد أتوا بالهدايا عند السيدة مريم - سلام الله عليها- وطفلها في المذود، ليسوا بالضرورة فرساً ولا حتى مجوساً بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد ذهب بعض الباحثين في التاريخ واللاهوت إلى أن هؤلاء الثلاثة تجار عرب، إما من جنوب الأردن «أنباط»، أو من جنوب نجد، حيث إن ما قدموه من هدايا (لبان وبخور ومر)، هي منتجات لم تعرفها بلاد الشام إلا عن طريق التجارة القادمة من اليمن وطريق الإيلاف وغيرها من طرق التجارة العربية.
مختصر القول، فإن ترسيخ فكرة «انحطاط الأخلاق» والانفلات الأخلاقي في سلوك الناس ما قبل الإسلام، فكرة ساذجة وخطيرة أضرت بالإسلام نفسه، فأعطت صورة غير واقعية عن «العصر الإسلامي» وصورته بمثالية وردية قياسية، صار تحقيقها، ولو بالسيف، هدفاً لكل المؤمنين بالوهم التاريخي.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا