جاء إعلان موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» الأسبوع الماضي إغلاق صفحة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب نهائياً، بدعوى أنها تنطوي على «خطر المزيد من التحريض على العنف»، ليثير عدة تساؤلات جوهرية تتعلق بطبيعة وسائل التواصل الاجتماعي، وهل ما تزال تقتصر على التفاعل الإنساني في العالم الافتراضي أم أنها تجاوزت ذلك لتصبح بالفعل من أهم الفاعلين المؤثرين من غير الدول؟ ولماذا أصبحت تشكل ثورةً في الإعلام والدبلوماسية، وباتت الخيار الأمثل للسياسيين في العديد من دول العالم؟ وكيف يمكن العمل على ترشيدها وضبط أدائها بعد أن تحولت في السنوات القليلة الماضية إلى أداة رئيسية في إدارة الأزمات والصراعات الدولية؟
لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة، لم تعد مجرد أدوات للتواصل الاجتماعي والإنساني بين البشر في العالم الافتراضي، وإنما باتت بالفعل تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالفاعلين المؤثرين من غير الدول، والتي تمتلك القدرة على التأثير في مسارات الأحداث الكبرى من خلال توجيه مستخدميها لتبني مواقف بعينها تجاهها، على النحو الذي بدا واضحاً قبل سنوات، حينما أسهمت بدور رئيسي في اندلاع ما يسمى بـ «أحداث الربيع العربي» والتحريض على الإطاحة بأنظمة الحكم في الدول التي شهدتها هذه الأحداث، ناهيك عما أثير عن تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة التي أجريت في العام 2016، حينما قامت شركة «كامبريدج أناليتيكا» باستغلال بيانات 50 مليون مستخدم لموقع «فيسبوك» لصالح شركات روسية لغرض التأثير في انتخابات الرئاسة الأميركية، وغيرها العديد من الأحداث التي تشير بوضوح إلى تصاعد الوزن النسبي لوسائل التواصل الاجتماعي في النظام الدولي.
وليس من قبيل المبالغة القول أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي بات يفوق في خطورته في بعض الأحيان الأدوات التقليدية في إدارة الصراعات والأزمات، من حروب مباشرة وعقوبات اقتصادية ودعاية وإعلام وحرب نفسية، خاصة في ظل ما تتمتع به من انتشار واسع، وانسيابية في نشر المعلومات وتداولها دون أي قيود، وتفاعل نشط بين مستخدميها حول العديد من القضايا، ولعل هذا يفسر تزايد الاعتماد عليها من جانب أغلب السياسيين في العالم، وفي مقدمتهم الرئيس دونالد ترامب، الذي كان يعتمد بشكل رئيسي خلال السنوات الأربع الماضية على «تويتر» في التعبير عن مواقفه تجاه قضايا الداخل والخارج، حتى إنه كان يمكن من خلال تغريداته التكهن ليس فقط بمسارات السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، وإنما أيضاً معرفة طبيعة علاقات ترامب بأعضاء حكومته وخصومه في الحزب «الديمقراطي»، ولهذا كان تويتر يمثل بالنسبة لترامب الأداة الرئيسية التي تلبي رغبته في الظهور الإعلامي والسريع والمؤثر، والتي تتيح له التواصل مع أكبر قاعدة شعبية والانفتاح على الرأي العام في الداخل والخارج، خاصة أنه كان ينظر بحذر وتوجس إلى وسائل الإعلام التقليدية، ويتهمها بعدم الحياد وترويج الشائعات والأكاذيب. 
وفي الوقت الذي أتاحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة «تويتر» نافذة مهمة للتواصل الإنساني والتفاعل النشط حول مجمل القضايا التي تهم البشر، إلا أنها، أو بالأحرى شركات التكنولوجيا العملاقة التي تديرها، باتت أهم الفاعلين المؤثرين في تفاعلات النظام الدولي، وأصبحت تمتلك سلطة قوية تتيح لها التدخل غير المباشر في رسم مسارات الأحداث وتوجيه تفاعلاتها، بل وتمثل قوة ضغط حقيقية على السياسيين في العالم، فالرئيس ترامب الذي كان يفتخر قبل أشهر بأن لديه أكبر عدد من المتابعين لحسابه على تويتر بات الآن «معزولاً» بعد إغلاق حسابه، ولم يعد قادراً على التواصل مع الرأي العام في الداخل أو الخارج، في دلالة واضحة على التأثير «الطاغي» والسلطة «المطلقة» لشركات التكنولوجيا العملاقة التي تتصرف دون قواعد ومعايير واضحة في التعامل مع حسابات مستخدميها والتغريدات التي يتم نشرها.
هذا التأثير المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي قد يكون مفهوماً وإيجابياً في بعض جوانبه الخاصة بالتواصل الإنساني والتفاعل الاجتماعي بين البشر، لكن أدوارها الجديدة التي بدأت تتصاعد في الآونة الأخيرة في حاجة إلى مزيد من الضبط والترشيد، ليس فقط لأنها تمثل في بعض الأحيان انتهاكاً لسيادة الدول والنيل من أمنها واستقرارها، وإنما أيضاً للتناقض الفج والازدواجية الواضحة في التعامل مع كثير من الأحداث والقضايا المتشابهة، فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي أغلق فيه كل من «تويتر» و«فيسبوك» حسابات الرئيس ترامب بدعوى أنها «تحرض على العنف»، فإنهما لم يتحركا إبان ما يسمى «أحداث الربيع العربي»، وتجاهلا العديد من الحسابات الوهمية التي كانت تحرض الشباب في هذه الدول على الثورة وهدم مؤسسات الدولة. إضافة إلى ما سبق، فإن العديد من وسائل التواصل الاجتماعي لا تتبنى معايير واضحة في ما يتعلق بحظر وإغلاق حسابات مستخدميها، خاصة وأنها تتجاهل أو تغض الطرف عن بعض الحسابات الخاصة بالتنظيمات المتطرفة والإرهابية التي تروج للعنف وتحرض على الكراهية.
الخطير في الأمر أيضاً هو التوظيف السيء لشركات التكنولوجيا العملاقة التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي للبيانات الخاصة بالمستخدمين واستغلالها لأغراض تجارية وأهداف سياسية دون الرجوع إليهم، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في الضوابط المنظمة لهذه الوسائل، والعمل على ترشيدها، حتى لا تتحول إلى عامل تخريب وهدم للدول والمجتمعات.
*إعلامي وكاتب إماراتي