لم يكن مفاجئاً توقيع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن عدداً من القرارات التي تُلغي قرارات سابقة للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب. فـ«الديموقراطيين» جميعاً كانوا يُظهرون في العلن معارضتهم لعدد كبير من القرارات التي أصدرها ترامب مثل قراره التنفيذي بشأن منع مواطني بعض الدول الإسلامية من دخول أميركا، وانسحابه من اتفاقية المناخ، وكذلك الخروج من منظمة الصحة العالمية.
لكن السؤال يبقى: هل ستصبح هذه الثنائية المتناقضة «سنّة ثابتة» في السياسة الأميركية خلال العقود المقبلة؟ وهل سيتحول الحزبان الرئيسيان في أميركا إلى حزبين عقائديين يختلفان على كل شيء، بدءاً من طريقة إدارة الحكم، ومروراً بطبيعة العلاقة ما بين الولايات الخمسين والأجهزة الفيدرالية، وانتهاءً بالتفاصيل الصغيرة التي يكمن الشيطان فيها؟ هل سيتحول «الديموقراطيون»الناخبون (الناس وليس السياسيين) مع توالي السنين إلى أصحاب هوية منفصلة تحمل مفردات ومحددات لا تتقاطع مع هوية الناخبين الجمهوريين؟ هل سنرى الأمريكيين في المستقبل يتصارعون ويشتبكون في السوبرماركت والمسرح والسينما والشارع ومحطة الوقود تحت عنوان رئيسي كبير يقول: انت جمهوري وأنا ديموقراطي، أو أنت ديموقراطي وأنا جمهوري؟
يقول أحد القراء في سره الآن، هل مجرد توقيع بايدن لعدد من القرارات التي تُلغي قرارات سابقة لترامب سيجعل من أمريكا دولة ذات هوى انقسامي؟ لماذا هذه المبالغة؟ وأقول لا، لكن السرعة في التوقيع، بالإضافة إلى طقوس التشفي «الديموقراطية» التي صاحبت التوقيع تقول إن المنافسة بين الحزبين لم تعد كما كانت، وإنما رسمت لنفسها «بُعداً هوياتياً»، قد يؤثر في المستقبل على الديموقراطية الأميركية التي كان أحد أهم أساساتها «وحدة الشعب الأميركي» وذوبان مفرداته في هوية جامعة هي «الانتماء لوطن الأحلام والحرية والتقدم العلمي»، مع احتفاظ كل مكون مجتمعي بتفاصيله الصغيرة التي جلبها من بلده الأم بشكل لا يؤثر على علاقاته مع المكونات المجتمعية الأخرى.
أربعة أسباب تجعلني غير مطمئن على مستقبل أميركا، لكنها دائماً قابلة لتدخل السياسيين الأميركيين (وبخاصة المشرعين) لمراجعتها وتقييمها وتقويمها، للعودة بشكل حقيقي إلى الديموقراطية، وليس عودة «عناوين صحفية» كما فعلت الصحافة الليبرالية بعد تنصيب بايدن:
الأول، تنامي المعارضة الداخلية والخارجية لسياسة الرئيس إلى مؤشرات لم تصلها من قبل. كان «الجمهوريون» يتفقون مع «الديموقراطيين» في 80% من القضايا ويعارضونهم في 20%. وكذلك كان يفعل «الجمهوريون». لكن خلال الأربع سنوات الماضية أصبح خلاف المعارضة مع مؤسسة الحكم يقترب من 100%، وهذا مؤشر خطير على مدى الانفصال الهوياتي بين الحزبين.
ثانياً، أصبح مؤيدو «الجمهوريين» يتركزون أكثر في مكون «البيض الأنجلوسكسونيين البروتستانت»، بينما نجد الهويات الأخرى من كاثوليك وهيسبانك وسود ومسلمين يميلون إلى الحزب «الديموقراطي»، وهذا قد يحول أميركا في المستقبل إلى جزيرتين منفصلتين دينياً وثقافياً.
ثالثاً، بدء بروز «الترامبية» في أوساط الحزب «الجمهوري»، وهذا قد يعيد الأميركيين بعد أربع سنوات أو ثمان سنوات إلى نقطة الصفر من جديد. وكما فعل بايدن، سيفعل سلفه من «الجمهوريين»، ما قد يجعل من أميركا بلداً حبيساً بين هويتين منفصلتين كما هو الحال في جمهوريات الموز!
يقولون إن ترامب سبب انقساماً في أمريكا، وأقول إن الخطر وضع الزيت على نار هذا الانقسام.
*كاتب سعودي