أغمض عيناك وتخيل أنك تجلس بين كارل ماركس وأبوبكر البغدادي من المؤكد أن مشهد كهذا لن تستطيع الخوارزميات المركبة للذكاء الاصطناعي تركيبه، فهو شيء من المستحيلات ليس لموت الشخصين، بل لأن أفكارهما لا يمكن أن تتلاقى، وبرغم ذلك فإن الوقائع تقول بأن تزاوج اللاممكن قد تحقق بشكل أو بآخر، حتى أن فرنسا وهي تعيش غربلة فكرية عميقة بقيادة الرئيس مانويل ماكرون، وصلت لمصطلح «اليسار الإسلاموي»، في محاولة تبدو أكثر جرأة للوصول لتفسير ظاهرة التلاقي بين المتناقضات الفكرية والأيديولوجية، التي تنامت في ما بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفييتي.
في العالم العربي حتى نكسة عام 1967، لم يتم كسر اليساريين الذين كانوا يمثلون تيار التحرر الوطني من الاستعمار الأجنبي، وما شكلته حركة «القوميين العرب» من تمكين لأفكار اليسار كانت في منتصف القرن العشرين الذراع القوي لليسار العربي الذي تأثر بعد الثورة الخمينية، وظهور تيار «الصحوة الإسلامية»، وهي العوامل التي شكلت نقطة التزاوج في حرب أفغانستان، التي وظفت لخدمة أجندات سياسية متضادة بين عواصم الشرق الأوسط المتضادة، لكنها وفرت البيئة الملائمة للدفع بالتيارات الإسلامية الطائفية الراغبة في السلطة السياسية، وهو ما استفاد منه تنظيم «الإخوان» عبر عقد تحالفات يمكن جداً توصيفها بالباطنية، نجحت في مرحلة من المراحل من تشكيل العقيدة الايديولوجية للجماعة الإسلامية في مصر، حتى بلغت اغتيال الرئيس السادات، بعدها انتقلت لمرحلة أخرى انتهت بتشكيل تنظيم «القاعدة».
اليساريون العرب كانوا يعيشون انكسارهم الذاتي الذي تضاعف برحيل الزعيم جمال عبدالناصر ونشوء صراعات أحزاب «البعث» في سوريا والعراق، التي انتهت نهايات دراماتيكية زادت من الفجوة التي انتهزتها النسخة الأكثر توحشاً من التيارات الإسلامية المسلحة الماثلة في تنظيم «داعش»، اليسار العربي كان على مدى عقود تلت نكسة يونيو خاضع لإرهاب الخطاب الديني الإسلاموي، الذي كان قادراً على تجريم التيار اليساري بتهمة الإلحاد، مما عمّق العزلة لأفراد التيار، وعمل على تفريغ كياناتهم السياسية والاجتماعية ليستفرد المتأسلمين بالمشهد، وبذلك استطاعوا توظيف أي فشل تنموي لصالح خطابهم لمناهضة معارضيهم، حتى تحولت المجتمعات العربية لبيئات طاردة للمفكرين والصحفيين وأصحاب الرأي.
تمكّن التنظيم الدولي للإخوان من التغلغل في مؤسسات حقوق الإنسان الدولية من بعد لجوء الكثير من قيادات التنظيم للعواصم الأوروبية، وأسهموا في تمويل تلك المؤسسات والهيئات، وهو ما أثّر في الأحزاب السياسية التي استفاد أفرادها وحتى مؤسساتها من ضخ الأموال الضخمة، التي كانت تديرها دوائر الإسلام الحركي في أوروبا والولايات المتحدة ودخولهم في مختلف الاقتصاديات بما في ذلك التجارة الممنوعة كتجارة السلاح والمخدرات، وحتى الإتجار بالبشر، وهو ما شكّل روافد مالية لعديد من المؤسسات الحقوقية والإعلامية الدولية بشكل غير مباشر، بحيث كان المتحكمون بتدوير تلك الأموال قادرين على الابتزاز المالي لتحقيق مقاصدهم، وهو ما انكشف بوضوح فيما بعد عام 2011، حيث أظهرت بعض المؤسسات الحقوقية نوعاً من التواطؤ مع التنظيمات السياسية المتأسلمة في العالم العربي على حساب القيم والمبادئ التي تدعي تلك المؤسسات والهيئات أنها تمثلها.
الليبرالية كقيم لا يمكن القول إن دولة بحد ذاتها تمثلها حتى في تلك السنوات الثمانية التي كان فيها الرئيس باراك أوباما ممثلاً للولايات المتحدة ومنافحاً عن القيم الليبرالية التي تشوهت بما يمكن أن يوصف بمواليد مهجنين منحوا جوائز عالمية، وتم تصويرهم على أنهم حملة الليبرالية في الشرق الأوسط، مما عمل على تعميق انعدام الثقة الشعبية والنخبوية في الطبقة السياسية الأوروبية والأميركية، حتى أن المراجعة الفرنسية لقيم الجمهورية لم تجد ذلك الرواج في المنطقة العربية نظراً لخيبات متوالية ترجمتها العشرية الدامية، التي تفسر كيف يمكن أن يلتقي البغدادي في ضيافة ماركس على كأس نبيذ فرنسي.
* كاتب يمني