تؤكد خبرات العديد من دول العالم، قديماً وحديثاً، أن التمسك بالأخوة الإنسانية كان الطريق الأمثل والأكثر فعالية في إنهاء صراعاتها الداخلية وتعزيز أمنها واستقرارها، ليس فقط لأنها تعني التسامي فوق أي اختلافات داخلية مهما كان مصدرها، طائفية وعرقية وثقافية، وإنما أيضاً، وربما الأهم لأنها تركز على المشتركات الإنسانية التي تضمن للجميع العيش في أمن وسلام، فجنوب أفريقيا، على سبيل المثال، لم تتخلص من نظام الفصل العنصري، إلا بعد أن استطاع زعيمها التاريخي «نيلسون مانديلا» مواجهة التمييز السائد بين السود والبيض، وتحقيق المساواة التامة بينهما، والتصدي للعنف السياسي ومشكلة غياب العدالة الاجتماعية، لأنه أدرك وقتها أن هذه التحديات تمثل انتهاكاً لأبسط معاني الإخوة الإنسانية، وبالفعل نجح في هذا التحدي، وأصبح يطلق عليه مهندس مشروع «الأمة الجديدة» الذي وضع جنوب أفريقيا على طريق البناء والتنمية والاستقرار. نفس الأمر حدث مع رواندا التي باتت تقدم تجربة يحتذى بها في التعايش والتنمية، وذلك بعد سنوات من الحرب الأهلية التي شهدتها في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وخلفت وراءها ما يزيد على خمسمائة ألف قتيل، لكنها تجاوزت هذه المأساة، حينما أدركت أن المصالحة والتعايش والتسامح هي طريق التنمية والاستقرار الحقيقي.
لقد جاءت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق قبل أيام لتعيد تأكيد هذه الحقيقة، ولتبعث برسالة واضحة إلى العراق، حكومة وشعباً، وقيادات دينية وأحزاباً سياسيةً، مفادها أن الأخوة الإنسانية هي المسار الوحيد لبناء عراق آمن ومستقر، عراق يحتضن جميع مكوناته، السنية والشيعية والكردية، ويعترف بحرية الأديان ويسمح بممارساتها بعيداً عن أي تمييز، عراق تعلو فيه الانتماءات الوطنية على ما عداها من انتماءات خارجية، وتنتصر فيه قيم التعددية والتعايش وقبول الآخر على قيم التحزب والمحاصصة الطائفية، هذا هو العراق الذي يرنو الجميع إليه، ويتطلع إلى عودته كي يمارس دوره الطبيعي في محيطه العربي.
الكلمات التي تحدث بها البابا خلال هذه الزيارة، وقال فيها بكل وضوح: «فلتصمت الأسلحة»، «وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة»، «تدفعني الرغبة في أن نصلي معاً ونسير معاً ومع الإخوة والأخوات في التقاليد الدينية الأخرى أيضاً، تحت راية أبينا إبراهيم، الذي يجمع في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين»، «أطلب منكم جميعاً أن تعملوا معاً متحدين من أجل مستقبل سلام وازدهار لا يُهمِل أحداً، ولا يميز أحداً»، كلمات ستظل وصفة النجاة للخروج من المأزق الحالي الذي يواجه العراق، لأنها تركز على حقيقة راسخة وهي أنه بإمكان جميع العراقيين العيش المشترك معاً في أمن وسلام، مهما كانت الاختلافات بينهم، سواء دينيةً أو عرقيةً أو سياسيةً، ويبقى ترجمتها على أرض الواقع في مشروع حقيقي، يُعيد اللحمة والوحدة إلى العراقيين، هو التحدي الحقيقي. 
إن أجواء الفرحة التي عمت المدن العراقية، والترحيب الواسع بهذه الزيارة والتفاعل معها يشيران بوضوح إلى أن الشعب العراقي يتطلع إلى مرحلة جديدة تنتهي فيها معاناته التي تراكمت على مدار السنوات الماضية، تعيد إليه أجواء الأمل والتفاؤل بمستقبل مشرق، وتسمح للمهجرين بالعودة إلى ديارهم، وتتيح لجميع المكونات التعايش المشترك تحت مظلة العلم العراقي، باعتباره الهوية الجامعة المشتركة التي تعلو فوق أية انتماءات أخرى. ولا شك في أن دعوة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قبل أيام للجماعات السياسية المتنافسة إلى الحوار لحل الخلافات، والاستفادة من «أجواء المحبة والتسامح» التي نشرتها زيارة البابا التاريخية لتحقيق تطلعات الشعب العراقي، تعد خطوة مهمة، وتعكس إدراكاً حقيقياً بأهمية توظيف هذه الزيارة بشكل إيجابي، واستثمار ردود الأفعال الدولية المرحبة بها في إعادة اهتمام المجتمع الدولي بالعراق وإعادة إعماره، والعمل على إيجاد حلول حقيقية للأزمات التي تواجهه على الصعد كافة، وهي مشكلات تبدو مترابطة ولا يمكن الفصل بينها، ومن ثم تحتاج إلى التحرك على مسارات متوازية.
إن تهنئة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للعراق بنجاح زيارة البابا فرنسيس، وتقديره لمبادرة قداسته الطيبة لدعم أواصر الأخوّة الإنسانية في بلاد الرافدين والمنطقة، وأمنياته «بأن تكون زيارته فاتحة خير ومحبة وسلام للشعب العراقي والعالم»، إنما تؤكد بشكل واضح على دعم الإمارات لكافة الجهود التي تستهدف عودة العراق كما كان، قوياً آمناً مستقراً، يمثل إضافة للدول العربية، وتشير أيضاً إلى حرص الإمارات البالغ على أن تكون «وثيقة الأخوة الإنسانية»، التي تم توقيعها في أبوظبي في فبراير عام 2019 بين فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرنسيس، هي المرجعية العليا التي يتم الاسترشاد بها في ترسيخ معاني الأخوّة الإنسانية، باعتبارها طريق الخلاص من الطائفية والتمييز والكراهية والعنصرية، وهي الآفات التي تهدد الأمن والسلم والاستقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي.
* إعلامي وكاتب إماراتي