على سلم الطائرة التي تقله عائداً إلى روما، سال بطريرك الكلدان الكاثوليك العراقي «لويس ساكو»، البابا فرنسيس: بعد أربعة أيام جاب فيها العراق من شماله إلى جنوبه: «هل أنت سعيد؟ فأجابه الفقير وراء جدران الفاتيكان برفع يديه إلى السماء، وبعد أن تهلل وجهه حبوراً مجيباً: «كثيراً جداً».
أربعة أيام يوتوبية عاشها العراق، بدت وكأنها حلم، فقد استطاع الرجل ذو الثوب الأبيض أن يوحّد العراقيين على محبته، رغم اختلافاتهم القاسية، التي أدت إلى المشهد المؤلم الذي وصل إليه العراق.
هل من إرث تركه البابا للعراقيين، يمكن أن يراكموا عليه ما يدفعهم في طريق الخلاص من الموت والدمار، من التشظي والتشرذم، من الطائفية البغيضة، والقتل على اسم الله؟
حمل فرنسيس للعراقيين محبة صافية، وأخوة إنسانية خالصة، ولعله يحق لنا دون تهوين أو تهويل القول: إن وثيقة الإخوة الإنسانية التي تم توقيعها في أبوظبي في فبراير 2019، قد ترجمت على أرض الواقع في العراق.
يمكن للعالم أن ينسى الكثير وسط صخب الحياة، لكنه أبدا لن ينسى عدة مشاهد في هذه الزيارة، ومنها سير فرنسيس الحثيث وسط دروب مدينة النجف الأشرف، ليصل إلى بيت آية الله علي السيستاني، وليلتقيه بمحبة كبرى، ليقوي نسيج الأخوة بين البابوية وبقية أطياف وأطراف العالم الإسلامي. أظهرت لقاءات فرنسيس في العراق، مع السياسيين ورجال الدين، ومن كافة المذاهب الروحية، أنه من الممكن جداً أن نبقى أخوة حتى وإن كنا مختلفين في المرجعيات، لكن من غير أحقاد تاريخية، أو السعي في طريق مؤامرات آنية، وأن طريق العراق للشفاء، لا بد وأن يمر عبر الخروج من عقلية الانغلاق والتكفير والتخوين والطائفية المقيتة، وأن نقبل بعضنا بعضاً بمحبة، ونحترم اختلافاتنا الثرية، ونبعد عن الخلافات وكافة أشكال العنف.
ترك فرنسيس إرثاً روحياً خلاقاً، امتد وسيمتد أثره ولاشك خارج العراق، ويتمحور حول النظرة إلى الأديان كعامل توفيق لا تفريق، وعلى غير المصدق أن يراجع كلماته التي وصف بها السيستاني، معتبراً إياه رجلاً حكيماً تصرف باحترام كبير، وبدا أن المرجع الشيعي يثق في البابا بأكثر من ثقته في رجالات الإدارة والسياسة العراقيين، فقد كان شرطه الوحيد للقاء فرنسيس هو ألا يشارك أحد من المسؤولين في المقابلة.
طريق الأخوة ليس بيسير، لكن الإرادة الصالحة تصنع المستحيلات، وفي المقابل تبقى هناك عقول أصولية منغلقة في كل مكان، فقد وصف البعض من مسيحي الشرق الأوسط من غير الكاثوليك فرنسيس بـ«أنه مهرطق»، ذلك لأنه يلتقي قيادات العالم الإسلامي الروحيين، وقد كالوا له الاتهامات، لكن الرجل لا يتوقف أمام مثل هذه الصغائر، فهو صاحب رسالة تقدمية، ويدرك أن إشكاليات عدة يمكن إيجاد حلول لها داخل إطار نهج الأخوّة الإنسانية، وبعيداً عن معايير السوق ومنطلقات وركائز العولمة الساعية عبر البراجماتية غير المستنيرة. أثبت فرنسيس في أيام زيارته الأربعة تلك أن العراق قادر على النهوض من عثراته، فقد ساد الأمن والأمان ربوع البلاد، بعد ما كانت الهواجس محلقة فوق رؤوس الجميع قبل الزيارة، إلى حد وجود انقسام داخل «الكوريا الرومانية»، أو حكومة البابا عينها، وما إذا كان يتوجب على فرنسيس القيام بتلك الزيارة أم لا؟
بين ركام جامع النوري وكنيسة الساعة، أطلق فرنسيس صيحة حب، إنه حان الأوان لدعم العراق والعراقيين لتكون الحياة بديل الموت، والنماء عوضاً عن الفناء.
* كاتب مصري