قبل خمسة أعوام، وفي معرض حديثي مع صديق سياسي متقاعد وأستاذ تاريخ مقيم في باريس، عن واقع العرب وقد نوهت إلى اتفاقية السيدين سايكس وبيكو ومعهما وزير خارجية روسيا آنذاك سيرغي سازنوف كأحد أسباب الفرقة العربية، ليقول لي الصديق أستاذ التاريخ الشرق أوسطي: اسمح لي أن أسألك: هل قرأت يوماً نص الاتفاقية المعروفة باسم «سايكس بيكو» قبل أن تحكم عليها كل هذه الأحكام؟
في الحقيقة، لم أكن يوماً قد قرأت الاتفاقية، حدود معرفتي بها لا يتجاوز قراءة المناهج المدرسية لها، والاستماع إلى أطنان من المقالات المكتوبة والخطب المتلفزة التي كانت تشتم الاتفاقية، بحكم أنها أساس بلاء الأمة العربية في واقعها الراهن.
ملاحظة الصديق أثارتني، وحال عودتي للعم «جوجل»، وجدت الاتفاقية نصاً وبسهولة متاحة للعموم، وقد قرأتها بلغتيها العربية والإنجليزية لأكتشف من النص وقراءات تاريخ الاتفاقية والظروف المحيطة بها، أن الاتفاقية كانت تتعامل مع العرب كمشروع وحدة، إما كدولة واحدة أو تحالف موحد لمجموعة دول.
الاتفاقية التي احتوت اثنتي عشرة مادة فقط، كانت منذ مادتها الأولى تحدد إطار التعامل مع العالم العربي كوحدة واحدة، وهو تصور غربي موجود رغم كل تفاصيل الشياطين التي رافقته كدول استعمارية، فنص المادة الأولى من الاتفاقية يقول:
«إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا أي دولة عربية مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين (أ) ـ (داخلية سورية)، (ب) ـ (داخلية العراق) المبينتين بالخريطة الملحقة. ويكون لفرنسا في منطقة (أ) ولإنجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (أ) وإنجلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية».
أنت أمام نص يتحدث عن تصور لدولة عربية موحدة أو تحالف عربي موحد إذن، وطبعاً لن نختلف أن ما سمته الاتفاقية بإدارة فرنسية أو إنجليزية تم تنفيذه بإدارات عسكرية «احتلالية». ويقيني مما قرأت عن تاريخ تلك المرحلة برمتها، أن غياب الوعي السياسي العربي والاندفاع العربي الذاتي نحو «القطرية» والإقليمية كان هو السبب الرئيس لتغيير مآلات سايكس بيكو. 
طبعاً، لست ساذجاً ولا طوباوياً لأرى في سياسات إنجلترا وفرنسا طموحات وردية مثالية لإنشاء الدولة العربية، فالسياسة مصالح كما كانت وستبقى كذلك، وسياسات لندن وباريس وكل اللاعبين الدوليين كانت دوماً أطماعاً لتحقيق أهداف.
ما أراه في قراءتي للاتفاقية أن كل القوى في ذلك الزمان، افترضت الحد الأدنى من وجود إرادة سياسية واعية عربية لإنشاء دولة، وباعتقادي من قراءة تلك الاتفاقية أن كل هؤلاء حتى لم يتوقعوا خذلان العرب لأنفسهم إلى هذا الحد.
نص الاتفاقية نفسها افترض وجود اتفاق مع حكومة أو حلف حكومات عربية، وكان هناك فراغ مطلق في هذا الجانب، فراغ تم إنشاؤه بسهولة المؤامرات لغياب الوعي العربي نفسه عن مفاهيم الدولة الحديثة وانغماس هذا الوعي بفكرة دولة الخلافة أو الحاكم المستبد بشرعية مقدسة من فقه متواطئ.
في حالات كتلك، وهي كثيرة، أتذكر دوماً، وأردد بيت الشعر القائل: «نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا».
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.