لا أحد يجحد فضل الآلة، فالإنسان المخلوق استطاع إيجاد الآلات المتنوعة والكثيرة، ومازال عقلهُ يخترع، لتسهيل حاجاته وتحقيق أفضل مستويات الحياة من إنتاج ومعرفة وأمن وصحة واتصال وسرعة. ومن بين الآلات تأتي آلة الاتصال والتواصل التي تحمل الكثير من المنافع، وتنطوي على بعض التحديات والمشاكل، التي تحتاج إلى مواجهة ومعالجة في إطار السياسات العامة.
لقد حققت وسائل الاتصال التقليدية تطوراً وتنظيماً في الحياة العامة والخاصة، وأدخلت تحسينات على قدرات وسرعة تفاعل المجتمع المعرفي والعملي والاجتماعي والأمني على المستوى الداخلي والخارجي، إلى جانب ما مثلته من متعة ومؤانسة وتمازج ثقافي، لا سيما عندما كانت اليد العليا فيها تعود إلى سلطة الحكومات، التي تتكفل بوضع السياسات العامة وتعمل على توفير الخدمات، وصولاً إلى تعزيز القيم وتماسك المجتمع بطرق متعددة توفرها وسائل الاتصال التقليدية كالراديو والتلفاز والصحافة. ثم تغيرت هذه الوسائل مع التطور التكنولوجي لتصبح أكثر انتشاراً وتنوعاً وسرعة ووفرة في المعلومات المتعددة، إلى جانب تقديم الكثير من الخدمات المتعددة كالتسوق الإلكتروني والعمل عن بعد. ففي السياسة العامة المعاصرة، أصبحت التكنولوجيا بوسائلها المتعددة تمثل جزءاً محورياً في إنجاز المعاملات والخدمات الحكومية عبر التطبيقات الإلكترونية في أي مكان وزمان عبر الحاسوب والأجهزة الذكية بصورة سريعة وعالية. وأصبح ذلك محلاً لسرور المتعاملين ومعياراً لتقدم وإنجاز المعاملات والمصالح والخدمات التجارية وغير التجارية كالتعليم والطبابة عن بعد. ناهيك عن تحسين السياسات العامة الحكومية عبر توفر الإحصائيات الكمية المتعددة والمختلفة، وتحويلها إلى معلومات نوعية تعكس علاقات وعوامل ومطالب ونقاط قوة وضعف وأمن وفرص لتحسين الأداء إلى غير ذلك من المنافع.
وعلى الوجه الآخر، باتت هذه الطفرة التكنولوجية تتميز بحيز كبير من الحرية بعيداً عن يد الحكومات في التأثير الكبير في تشكيل شخصية الأفراد والمجتمعات، وتعد سبباً رئيسياً في تناقص عدد كبير من الوظائف، التي توفرها الحكومة في سياساتها تجاه القطاع العام والخاص. فإيجاد الوظائف بشكل مستمر يعد أحد أهم أهداف الحكومات. والوظيفة ليست فقط عملاً مقابل أجر مادي، بل وسيلة تفاعل مع النظام السياسي والمجتمع، كما أن الوظيفة تمثل مشاركة للشعب مع الحكومة، وفلكاً تدور فيه السياسات والبرامج التنموية، ومعياراً لنجاح السياسات. وعلاوة على ذلك، تعد الوظيفة طريقاً لاستهلاك السلع ومنها ما تنتجهُ التكنولوجيا. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن إتمام المعاملات والتعايش مع تكنولوجيات الاتصال سيكون سبباً في بعض الأمراض البدنية والنفسية بسبب قلة الحركة والتفاعل بين البشر.
ولعل المستقبل سيكون كما حدث عندما تزايد خطر التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية عبر الإنتاج، حيث خرجت فلسفة التنمية المستدامة لإيجاد توازن بين الضرورات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والعمرانية في تلبية احتياجات الحاضر مع الأجيال القادمة، وعلى المنوال نفسه، ستخرج سياسات تؤطر استخدام التكنولوجيات وتجعل لها محددات للمواءمة بين الضرورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والصحية، وقد نتحدث آنئذ عن تنمية تكنولوجية مستدامة.