من المعلوم أن التدافع يوحي بالعديد من المعاني، التي تحتمل الفوضوية أو التنظيم، الهدم أو البناء.. فهي تماماً كتدافع توأمين بغية إبصار أحدهما النور أولاً، أو تدافع جزيئات صغيرة لإنهاء تفاعل كيميائي مشع، أو تدافع بشري قائم على فسيفساء العلاقات الإنسانية المتجذرة فيهم. 
وفي سياق تناول «التدافع الإنساني»، وما يتداخل به من مجالات، فقد جاء الإسلام واضعاً منهجاً متكاملاً متوازناً للبشرية، قائماً على الاختلافات والتنوعات، التي لم يدع أياً منها للتصارع فيما بينها: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، ومقراً لطبيعة العلاقات الناظمة فيما بين الأفراد والجماعات والدول، ومشيراً لعناصر التفاضل فيما بينها، والتي لا تمت للاختلافات السطحية بصلة، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». 
وإن الدعوة للتعارف والتشارك الإنساني تعتبر غايةً سامية قائمة على التعارف الحضاري، أو «التدافع الحضاري»، إذ تمثل الحضارات في سياقها الواسع، مخزوناً ضخماً من الثقافات، ومضمونها المادي والمعنوي الذي تصعب الإحاطة به كاملاً، وعليه فإن الإنسان لا بد له من الاستمرار في محاولة توسيع «ساحة» تفاعله مع الآخر للوصول لأعلى نسبة يمكن تحقيقها من التآزر والتعاون، وبخاصة أن جوهر الحضارة يؤخذ من التفاعلات الحاصلة بين الأفراد، باعتبار كل فرد مرآة لحضارته، وهو ذات الأمر الذي أكده الانتروبولوجي ادوارد سابير. 
وللحضارة كمفهوم وقضية، العديد من الروابط الوثيقة سواء أكان ذلك مع الصراع أو الحوار أو التعارف أو التدافع والتي تؤول لوجود ارتباطات أخرى مع بعضها البعض سواء أكان ذلك ضمن توافقها أو تناقضها. أما فيما يتعلق بالحضارة المرتبطة بالتدافع بشكل خاص، فهي تعتبر شجرة تمتد على فروعها معانٍ عديدة تدور حول التفاعل الحضاري، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى متضمناً التفاعل الحضاري الإيجابي والسلبي، والتعاوني والتصارعي، والحتمي والاختياري، والنسبي والمطلق. 
وفيما يتعلق بالمنظور الإسلامي للحضارات، فإنه منظور بعيد جداً عن التدافع بغية الصراع أو النهضة باستخدام قانون «البقاء للأقوى»، بل إن المنظور الإسلامي طامح لتدافع إنساني كثيف يسعى لانتصار القيم والأخلاق والحق، وهي المعاني التي تعني في جوهرها انتصار الإنسان بالمرتبة الأولى، من خلال ذلك التفاعل الحاصل عبر «التدافع الحضاري»، لا سيما أن التفاعل سنّة تقوم عليها الحياة البشرية منبثقةً من الطبع الاجتماعي للإنسان بالفطرة، وهو ذات الأمر الذي يمكن تطبيقه على المجتمعات والدول والثقافات، وحتى الحضارات، ومن غير الدقيق حصره في الإنسان كفرد وحسب. 
إذا ما تم الإمعان في ماهية وكيفية التدافع الحضاري، نخلص لاستيعاب مشروع إنساني حضاري ضخم يحل بأطره العريضة والباهية، كافة المشكلات الفكرية التي ظلت منبع الظلم والكراهية بين الناس. وإن أعظم ما يمكن تحقيقه في مشروع «التدافع الحضاري» هو الوعي بمقصده القائم على مسؤوليتنا تجاه الآخر، لا التعدي عليه أو محاولة إنكاره، ذلك أن هذا التدافع قائم على القبول والتعارف والتشارك والتعاون، يقول الحق في محكم تنزيله: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم»، وما يدخل في الـ«أحسن» هي القيم التي يستحيل معها تقبل الكراهية أو محاولة إلغاء الآخر، باعتبارها دواءً لكل الموروثات الخاطئة، وسبيلاً لتقديس المقدس فقط، وليس تقديس التأويلات والقائمين بها. 
وعليه فإن التفاعل الحضاري هو مشروع إنساني قيمي حضاري، يعمد للمفهوم العميق في تفسير العلاقات كما وردت في الفكر الإسلامي، الذي يعبَّر عنه من خلال المبدأ القرآني المحض، الذي يؤصل من خلال الآيات الكريمة لحتمية التفاعل القائم على التشارك والتعارف بالتدافع لا التصارع، ففي حين أن بالإيمان بالله والأخذ بالعلم وتعمير الكون من خلال التوظيف الإيجابي.. هي إحدى أبرز مقومات الحضارة الإسلامية، إلا أنها أيضاً، وفي ذات السياق، تدعو للتعاون على الأعمال الصالحة، وإقامة العدل، والتمتع بالحرية المنضبطة بالحقوق والواجبات، والتأكيد على التعارف الإنساني والتعاون فيما بين الناس. 
ومن جانب آخر، فإن التدافع الحضاري المقصود هو سمو للإنسانية على كافة العوائق والترسبات التي خلفتها النزاعات على مر التاريخ، وتجميع دقيق لكافة حيثياتها، كدليل خبرات وعِبَر مستَفادة، توضع عليها أساسات الحضارة العالمية المتحابة والمتماسكة والمتدافعة، لأجل تعميم الخير والوئام.