العام الماضي جعل الولايات المتحدة تبدو أشبه ببلد في حالة تدهور مستمر. والحق أنها من بعض النواحي هي كذلك بالفعل. لكن بالنظر إلى عام 2020، ثم التطلع إلى عام 2021، نجد أن هناك مؤشرات على أن البلاد تمتلك مخزونات هائلة من القوة والفعالية التي ستجعلها تتغلب على أحلك التوقعات وأكثرها تشاؤماً. وربما لا تكون الأمور قد عادت إلى سابق عهدها بعد، لكننا بكل تأكيد على الطريق إلى ذلك.
ولعل أبرز مثال هو سباق التلقيح. فعلى الرغم من المشاكل التي اعترت عملية التلقيح في بدايتها، إلا أن نظام الصحة العامة الأميركي استطاع مع ذلك النهوض والوقوف على قدميه وحقن نحو 1.2 مليون جرعة لقاح في الأذرع كل يوم، وهو إنجاز ليس بعيداً جداً عن هدف الـ1.5 مليون جرعة الذي سطّره الرئيس جو بايدن. هذا علماً بأن دولاً معدودة في العالم تفوقت على الولايات المتحدة في تلقيح عدد أكبر من مواطنيها، وجميعاً أصغر منها بكثير، باستثناء المملكة المتحدة. واللافت هنا أن الصين متأخرة عن الولايات المتحدة في حملة التلقيح، على الرغم من أنها بدأت جهود تطوير لقاح قبل باقي الدول. 

وإذا واصل منافس الولايات المتحدة الأكبر التأخر، فقد تصبح جهود مكافحة «كوفيد-19» في نهاية المطاف أقل شبهاً بـ«تشيرنوبل أميركا» وأكثر شبهاً بتكرار لسباق الفضاء، حيث بدأت الولايات المتحدة بداية بطيئةً، لكنها تصدّرت السباق في النهاية. 
ومن الناحية الاقتصادية، تضررت الولايات المتحدة من «كوفيد-19» كثيراً، وشمل ذلك انكماشاً اقتصادياً بسبب موجة الشتاء الكبيرة. غير أنه إذا كان الاقتصاد الأميركي قد تخلّف عن دول غنية أخرى اعتباراً من صيف 2020، فإنه تعافى الآن وعاد إلى أداء متوسط: وعلى سبيل المثال، فإن قطاع الصناعة الأميركي بدأ التعافي منذ بعض الوقت، مسجِّلاً نمواً قوياً في أواخر 2020. وإذا واصلت الولايات المتحدة الفوز في سباق اللقاحات، فإنها يمكن أن تبلى بلاءً أحسن، نظراً لأن الخوف من الفيروس هو الذي يؤذي الاقتصادات. 

ولا شك في أن الأميركيين الأكثر هشاشةً هم المتضررون الأوائل من «كوفيد-19»، وهذا نسق نراه للأسف في الكوارث الاقتصادية. غير أن ازدياد الفقر هذا أعاد فقط الولايات المتحدة إلى مستويات عام 2018، حيث كانت البلاد قريبة من نهاية أطول فترة نمو اقتصادي متواصل منذ الحرب العالمية الثانية، وهو توسع أفاد مَن هم في قاع توزيع الثروة بشكل خاص. وهذا يشير إلى أن لدى النظام الأميركي قوة أساسية ستعود بعد انتهاء جائحة «كوفيد-19». 
وبشكل عام، فعلى الرغم من الركود الاقتصادي، إلا أن جهد الإنفاق الخاص بإغاثة المتضررين من «كوفيد-19» أظهر قدراً مفاجئاً من التعاون بين الحزبين الرئيسيين والفعالية في الكونجرس، وهما شيئان لم تشتهر بهما الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. 
وإضافة إلى كل ذلك، يبدو كما لو أن الولايات المتحدة قررت أخيراً أن تكون جادة بشأن مواجهة أكبر تحدٍّ لها على المدى الطويل، ألا وهو تغير المناخ. ذلك أن مشروع قانون الإغاثة من تأثيرات «كوفيد-19»، الذي حظي بدعم الحزبين ومُرر في ديسمبر الماضي، شمل أيضاً تدابير مهمة لمكافحة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. كما شمل 35 مليار دولار من الاستثمارات الحكومية الجديدة في الطاقة الشمسية وتخزينها وغيرها من تكنولوجيا الطاقة الخضراء، وائتماناً ضريبياً للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وإنهاءً تدريجياً لمركبات الهيدروفلوروكربون (غاز يتسبب في الاحتباس الحراري ويوجد في أجهزة التبريد).. مع العلم بأن هذه الأشياء تم القيام بها في عهد إدارة ترامب، بدعم جمهوري، لكن مخططات بايدن في هذا المجال أكثر جرأةً وأبعد طموحاً بكثير. 

وفضلاً عن ذلك، فإن الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ تقدّمت بشكل كبير جداً بفضل العلوم والتكنولوجيا والصناعة الأميركية. ذلك أن البحوث الأميركية الممولة من الحكومة هي التي أدت إلى انخفاض الكلفة بين عامي 1980 و2000، كما أن إنشاء الولايات المتحدة لمنشآت الطاقة الشمسية على نطاق واسع ساعد على مواصلة الانخفاض بعد ذلك. وفي الأثناء، خفضت العلوم الأميركية والزعامة الصناعية لشركة «تيسلا موتورز» كلفة البطاريات أيضاً. وكانت النتيجة ثورة تكنولوجية حقيقية. وتلك الثورة هي التي مكّنت بلداناً أخرى من مضاعفة الجهود أيضاً.
وعلى سبيل المثال، فإن الهند التي كانت مؤخراً فقط في طريقها إلى بناء كميات ضخمة من محطات الفحم، شرعت في إلغائها بسرعة لصالح الطاقة الشمسية، لأن الأخيرة باتت رخيصة جداً الآن. 
كل هذا لا يعني تجاهل نقاط الضعف والاختلالات الكبيرة جداً التي تعاني منها الولايات المتحدة. فتكاليف الرعاية الصحية والبنية التحتية وبناء السكن والتعليم العالي.. أعلى بكثير من كلفتها في باقي بلدان العالم المتقدم. كما أن البيروقراطية الأميركية عانت لسنوات من الإهمال وقلة الاستثمار كما عانت من التدخل السياسي. وعلاوة على ذلك، فإن الاستقطاب السياسي ما زال مرتفعاً بشكل خطير، كما يدل على ذلك الهجوم غير المسبوق على مبنى الكونجرس الأميركي يوم 6 يناير الماضي. 
غير أنه على أولئك القلقين من أن الولايات المتحدة باتت في حالة تدهور نهائي أن يطمئنوا لأن نقاط القوة الأساسية التي لدى البلاد ما زالت موجودة، والكثير من تحدياتها الكبيرة يعالج بالعلم والصناعة والحكومة.


*كاتب وأكاديمي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس»