يرتبط المصري بأرضه ويظل يحن إليها إذا ما هاجر تحت ضغط الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. ولم تصبح الهجرة ظاهرة في مصر إلا بعد ثورة 1952 ثم عظمت أثناء الجمهورية الثانية بعد 1970، سواء داخل المنطقة العربية (إلى الخليج شرقاً أو إلى في ليبيا غرباً.. طبقاً لسوق العمل) أو في أصقاع بعيدة مثل أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا.. حتى تربى عند جيل جديد من الشباب إحساس بأن الأزمة في الداخل والحل في الخارج، الضيق في الوطن والانفراج خارج الحدود! 
والأغاني الشعبية والمواويل والأمثال العامية مليئة بالحزن والحسرة والألم على مغادرة الوطن ولوعة فراقه. ومنذ الأدب العربي القديم والبكاء على الأطلال وفراق الحبيب.. ظل الحنين إلى الديار عنصراً ثابتاً في الوجدان العربي. والناي هو خير مُعبِّر عن هذا الحزن مثل لحن «الصبا» في الموسيقى العربية. وقد أطربت كوكب الشرق جماهيرها بألحان الهجر والفراق والحنين إلى العودة والوئام.
والهجرات العربية الأولى لبلاد المهجر أو أفريقيا في الساحل الغربي انطلقت من الشام وليس من مصر. وبعد قرنين على تلك الهجرة ها هي الجاليات اللبنانية والسورية وقد أصبحت جزءاً من النسيج المجتمعي لبلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا. وهي الهجرة التي عبّر عنها في بدايتها «أدب المهجر» بكل رومانسية العودة إلى الأرحام والوطن الأم وألم الغربة وجدل الأنا والآخر، الهوية والاختلاف.
وتكاثرت الأحاديث والأقوال المأثورة عن حب الأوطان، كما عبّر الطهطاوي في «مناهج الألباب»، وكما تعلم المصريون وهم صغار حديث «حب الوطن من الإيمان» من القواعد العامة للآداب والأخلاق العامة. وقول عمر بن الخطاب «عمر الله البلاد بحب الأوطان»، وقول علي بن أبي طالب «سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده». وقد كتب التوحيدي رسالة «الحنين إلى الأوطان»، وأصبح «الإخراج من الديار» في الشريعة أحد أسباب الجهاد. وإن لمصر في الشريعة الإسلامية مكانة خاصة؛ فجندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة. وقد أوصى الرسول بقبطها خيراً، فإن لهم فيها ذمة ورحما. ويروى أن الرسول قال بعد موت إبراهيم وحزنه عليه «والله لو عشت يا إبراهيم لرفعت الجزية عن كل قبطي».
والآن تمثل الهجرة خطورة على الوطن يضعف الولاء له، والإحساس بالسعادة في البعد عنه والعمل خارجه، وبناء كل شيء إلا فيه، والحضور إليه سائحاً بجواز سفر أجنبي أو على الأقل بجنسية مزدوجة. الوطن للفرجة أو للمقارنة الظالمة أو للتعالي عليه وربما العمل ضده. وتشهد بذلك طوابير المصريين على أبواب السفارات الأجنبية طالبين تأشيرات دخول لبلاد الوفرة في الشرق والغرب.
ومنذ عشرات السنين تقام مؤتمرات المغتربين للمصريين العاملين في الخارج لربطهم بوطنهم وتجديد الولاء الذي ضعف على مر السنين، حمايةً لذرية جديدة أخذت الجنسية الأميركية أو غيرها وتتلعثم بالعربية وفقدت الهوية أو كادت. وتعقد المؤتمرات وتنفض، وتنفق عليها الأموال وتصبح موضوعاً مثيراً للإعلام. وينشر عن المشاريع المالية الاستثمارية الضخمة وتحويل مدخرات المصريين في الخارج داخل الوطن. لكنها تأتي من العمالة في الخليج وليس من النخبة في العالم الجديد. وتوضع الخبرات العلمية للمصريين في الخارج لتشارك في الخبرات العلمية في الداخل، لكن الخارج والداخل لا يلتقيان. ولا يأتي المصري الأجنبي إلا أياماً معدودة لإجراء فحص طبي أو عملية جراحية أو للإشراف على مؤسسة علمية باعتباره خبيراً يساعد مَن لا خبرة لهم.
وهكذا فالتحدي الآن هو كيف يمكن إعادة روح «طلعت حرب» لمصر والمصريين وتأسيس البنوك الوطنية، والشركات الوطنية؟ كيف يمكن إعادة موجة ثانية من التمصير للشركات الأجنبية؟ وما هو مشروع مصر للقرن الجديد؟*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة