يعتبر العراق من أُولى الدول العربية التي أسست وأنشأت التلفزيون ووسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، وقد بدأ بث تلفزيون العراق عام 1956، لذا فالعراق أول دولة عربية أسست محطة تلفزيون في ذلك الوقت. وقد برع العراقيون في الإعلام بمختلف أنواعه وأدواته وأغراضه في وقت مبكر، وأسسوا كليات ومعاهد متخصصة في الإعلام والصحافة. وكان للإعلام العراقي براعته وتأثيره القوي ودوره الفعال، من خلال الإعلاميين والصحفيين العراقيين البارزين المعروفين ببلاغتهم اللغوية ونقدهم اللاذع، والذين كان لهم دور مهم في الدفاع عن بلدهم خلال معارك وأزمات وحروب متعددة.. وما أكثر معارك العراق ومناوشاته المتنوعة، سواء بحكم موقعة الاستراتيجي المهم، أو بسبب الخلاف مع جيرانه، أو بسبب دوره القومي وثوراته وتقلباته وانقلاباته.
وحين يُذكر الإعلام العربي لابد أن يُذكر إعلام العراق القوي في تلك المرحلة الذهبية من حياته، وتعبئته المعنوية وتوجيهه السياسي لشحذ الهمم ورفع الروح المعنوية القتالية بشكل صارم ومتميز وفعال.. على نحو ربما يختلف عن باقي الدول العربية، مما منح الإعلام العراقي دوراً مؤثراً إلى حد كبير في ذلك الوقت، فكانت بعض الدول تخشى جرأة الإعلام العراقي وروحه الهجومية الشرسة لاسيما حين يتعرض العراق ونظام حكمه إلى أذى أو اعتداء.
الغريب في الأمر أن بعض الإعلاميين العراقيين اليوم تحول 360 درجة، أي رأساً على عقب، وأصبح يعمل بازدواجية غير مسبوقة، من خلال تعامله مع وطنه ومع الأحداث الساخنة فيه بشكل غريب وغير مألوف من الاستسلام والانبطاح وعدم المبالاة.
بعد أن كان الإعلام العراقي إعلاماً مهنياً موجهاً ووطنياً وموحداً، ويقف مع قضايا بلده بقوة وصلابة.. أصبح أغلبه اليوم ذا صبغة طائفية، فارتفع لديه الحس المذهبي واختفى الحس الوطني القومي السليم، الذي كان معروفاً في قوته وصرامته ووحدة أهدافه المنهجية والإستراتيجية، وكان يخشاه الخصم.
حين كنا نسمع أو نقرأ للإعلامي العراقي في السابق، كنا نجده مفعماً بالوطنية العالية وكان يسهب في مديح وطنه وشعبه وقادته، حتى أن المتابع كان يضجر من المبالغة في الوصف لصالح العراق والأمة العربية. وكان الإعلام العراقي بأصواته العالية يستصغر من حجم الخصم بشكل استعلائي وساخر، كما كان يباهي ويكابر في وصف قادة العراق وقدرتهم بشكل غير عادي.
لكن بعد احتلال العراق وتدميره وتقزيمه اختفت هذه الأصوات وتلاشت وغابت وانتفت، والبعض منها تحول من وطني إلى طائفي، ومن علماني إلى ديني متطرف، ومن عروبي إلى متعصب مذهبي، ومن مفكر ليبرالي إلى مداح عمائم ورداح ولائم!
ما هذا التحول المفاجئ والانقلاب السريع المباغت؟ وهل يا تُرى غابت الكفاءات الوطنية والطاقات الإعلامية العراقية الكبيرة، المعروفة برزانتها وهيبتها ووطنيتها، والتي كانت ملهمةً ومؤثرة؟ وأين القامات الصحفية التي كانت تزلزل الأرض تحت أطماع الغزاة واللصوص؟ وهل بدّلت تلك الأصوات العالية جلدها بسرعة متناهية، دون حياء وبلا خجل، رغم كثرتها وتعدد قنواتها، وارتدت أقنعة لا لون لها ولا رائحة، وباتت تتموضع مع من يركب الموجة ويدفع أكثر؟
معظم الصحافة العراقية اليوم تميل مع رياح النفوذ والسيطرة حيث ما هبّت، حتى ولو كانت رياح صفراء تلوث الماء والشجر وتفسد الزرع والضرع، وتزرع تحت كل نخلة عراقية شامخة بذرةَ شر وحقد وكراهية وطائفية.. لتنسف ذلك التاريخ الطويل المهيب لبلاد إبراهيم عليه السلام، وبابل وسومر وآشور وكلكامش.. بلاد الرافدين وحمورابي ونبوخذ نصر والرشيد والمتنبي!


*كاتب سعودي