سبق وأن هدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» (يوم 24 مايو)، عقب الانقلاب الأخير في مالي، بسحب قوات بلاده من هذا البلد الغرب أفريقي، في حال سارت الأمور هناك باتجاه «الإسلاموية الراديكالية» بعد ثاني انقلاب عسكري في ظرف تسعة أشهر. وأكد ماكرون أنه سبق وأن «مرر رسالة» إلى قادة دول غرب أفريقيا تقتضي أنه «لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال سياسي». وقال ماكرون للصحيفة الفرنسية خلال زيارته لروندا وجنوب أفريقيا: «كنت قد قلت للرئيس المالي باه نداو (...) الإسلام الراديكالي في مالي مع وجود جنودنا هناك؟ هذا لن يحصل أبداً (...) لكن إذا سارت الأمور في هذا الاتجاه، سأنسحب». وهذا ما وقع. فثلاثة أيام بعد هذا التصريح، قررت فرنسا «تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات المالية»، حسب بيان لوزارة الجيوش الفرنسية. ومن خلال هذا القرار، تبدي باريس شجبها للانقلاب على الأرض، وقد شددت الوزارة في بيان تلقته وكالة الأنباء الفرنسية على أن «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي حددا شروطاً وخطوطاً حمراء لتوضيح إطار عملية الانتقال السياسي في مالي (..) وبانتظار هذه الضمانات قررت فرنسا (..) تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات المالية مؤقتاً، فضلاً عن المهمات الاستشارية المقدمة لها».


ورغم اتخاذها ذلك الإجراء، فإن فرنسا لا محالة ستتراجع عنه طال الزمن أم قصر، ذلك أن الاستراتيجيين يلاحظون أن المجتمع الدولي لا يمارس ما يلزم من الضغوط والإجراءات والتدابير والعقوبات على المجلس العسكري في مالي لإعادة السلطة إلى المدنيين. ويفسر هؤلاء هذا الموقف غير الصارم تجاه باماكو بالشراكة التي تجمع الطرفين في مواجهة المسلحين بالمنطقة، وباعتبار أن هذا البلد ينظر إليها كمعادلة أساسية لا يمكن تجاوزها في التصدي للإرهاب بالساحل الأفريقي.
كما يظهر أن شركاء مالي لا يرغبون في أن يتعرض سكانها لمزيد من الأزمات الاقتصادية والمالية وأن يشكل ذلك في نهاية المطاف نعمة سهلة للإرهابيين المتوغلين هناك. ولنا في «السابقة التشادية» أفضل مثال على ذلك. فبعد مقتل الرئيس إدريس ديبي في أبريل الماضي أقر الاتحاد الأفريقي وفرنسا باسم الأمن الإقليمي إقامة المجلس العسكري في نجامينا بقيادة نجل الرئيس الراحل، دون عقوبات ولا ردود فعل سلبية كبيرة من المنتظم الدولي أو من الراعي الفرنسي ضد المجلس العسكري.
فالعامل المحدِّد لكل ردات الفعل الدولية في المنطقة يكمن في «التخوف» المتزايد والمستمر، سيما وأن الإرهابيين متواجدون بكثرة ويترصدون كل مَواطن الضعف في تلكم البلدان ليأتوا على الأخضر واليابس.
وقد قامت فرنسا بهذه التصاريح سالفة الذكر، لعاملين أساسيين: فهي أولاً تريد أن تبين لدول المنطقة وللمنظومة الدولية أنّها لا تستطيع مكافحة المسلحين بمفردها في منطقة الساحل حيث ينتشر 4500 عسكري فرنسي في إطار قوة «برخان»، ولكي تطالب قادة دول مجموعة الساحل الخمس (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا) بـ«التزام سياسي واضح». ثم إنه ثانياً بدأت فرنسا تشعر بخطورة الرياح المناهضة لها في المنطقة بعد ست سنوات من التواجد المتواصل لقواتها العسكرية وسقوط 41 قتيلاً من جنودها.. فلا تزال هناك أعمال عنف مسلح في شمال مالي وقد وصلت إلى وسط البلاد، وكذلك إلى والنيجر وبوركينا فاسو المجاورتين. فمثلاً منذ أيام قُتل مائة شخص في هجوم هو الأكثر دموية تشهده بوركينا فاسو منذ بدء أعمال العنف المسلح فيها عام 2015، شنه مسلحون على موقع لـ«القوات الرديفة» ومنازل في المنطقة. فالمؤسسات الأمنية هناك غير قادرة على حماية حدودها بتمكن، ولا على محاربة تغلغل الحركات الإرهابية العابرة للبلدان والقارات. وإذا كان التدين الصوفي الشعبي (القادري التيجاني..) هو الحاضر منذ القدم في تلك المجتمعات، لعوامل تاريخية، فإن الاتجاهات المحافظة المتزمتة بدأت تطرق أبواب تلك الدول بطريقة مثيرة، إلى أن وصلتها الجماعات والحركات الإرهابية القادمة من الصومال والنيجر، وهي اتجاهات لم تعهدها سابقاً دول كالنيجر حيث يمثل المسلمون 60 في المائة (وهم مالكيون سنيون)، وبوركينا فاسو (المسلمون فيها أيضاً مالكيون متصوفون). وأضحت تلك البلدان فريسة للتنظيمات الإرهابية التي بدأت تنظر إليها كمنطقة صالحة للاستيطان واستقطاب البشر. 


*أكاديمي مغربي