الفضاء الإلكتروني أو السيبراني هو بيئة رقمية أصبحت من ضرورات الحياة، تأسر النفس، وتحيط بالوقت شغلاً واهتماماً، فبها يحصل التواصل، وتكتسب المعرفة، وتنتقل في ثبجها الأخبار. ولا شك أننا نجهل كثيراً مما يدور في هذا البحر الرقمي المتلاطم الأمواج، فهذا الفضاء يحاكي حياتنا، ويتدخل في جميع شؤوننا، ويرتبط به أولادنا وأجيالنا، ومنه تنبع كثير من مشاكلنا، وتدور على رجع صداه منتدياتنا وملتقياتنا واجتماعاتنا وكثير من مبادراتنا وخططنا، في صورة تسترعي الانتباه والتدبر، والاتجاه الكلي نحو السلامة السيبرانية والأمان الرقمي في هذا الفضاء، الذي لا تزيده الأيام إلّا مستجدات في التهديدات والسلبيات، والمخاطر والمغريات، والاكتشافات.
لقد أصبحت العوالم الرقمية مكوّناً أساسياً من مكونات حياتنا ومعيشتنا ومصالحنا، وتنمية رصيدنا المعرفي، وتحقيق قيمة التواصل والانفتاح على العالم.

ورغم كل تلك الفوائد والعوائد المجزية، إلا أن هَمَّ الأجيال وسؤال التجاوز والرقابة والمنع والعقاب حاضر في جميع المستويات، وهذا ما دعاني للنهل من رسالة الأنبياء، والعودة لنبعها الصافي، والتماس بعض الحلول من رسالة نبينا سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، حينما حصر الدين كله في «النصيحة» اهتماماً وبياناً لمكانة هذه القيمة العظيمة في حياتنا اليومية، فهي عين الدين وعماده وقوامه، وعليها مدار الإسلام، فهي حق للجميع لا يستغني عنها أحد، تذكرةً للغافل ومعونةً للعاقل.
إنها النصيحة الخالصة التي تأتي من اللبيب المشفق، فبها تتحقق معظم أمور الدين، وخاصة الجانب الإنساني والقلبي فيما يتعلق بالمعاملات والعلاقات والتواصل، وتقويم النظرة للآخر باعتباره إنساناً يستحق دائماً من يدله على ما فيه الخير والمنفعة، برفق ولين وشفقة ورحمة، وضبط تلك العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والأسر والأجيال، وأن إهمال المجتمع للنصيحة ينشأ عنه فراغ كبير داخله، ويبدو ذلك ناصعاً في حالة الفضاء الرقمي.
إن النصيحة كما يقول أهل اللغة من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة تؤدي مثل هذا المعنى إلا إذا أضيف إليها غيرها، وهي كلمة موضوعة لمعنيين، الخلوص والالتئام، فالناصح مخلص لجميع أفراد المجتمع مشفق عليهم، لا يحمل غشاً تجاههم، وفي نفس الوقت يرفأ أحوالهم، كما يُرقع الخياط الثوب، ومن هنا سمي الخياط ناصحاً.
فالنصيحة خدمة اجتماعية إنسانية على منهج الرحمة، مجردة من جميع الحظوظ والأعواض الدنيوية، من المصالح والتوظيف السياسي والأيديولوجي والحسابات الضيقة، فهي دائماً تعني: إرادة الخير لجميع الناس، ولهذا كانت ضمن قيم رسالات الأنبياء (وَأَنصَحُ لَكُمْ)، وجميع الأنبياء ورسالاتهم جاءت لخير البشرية. 
فجوهر النصيحة هو إرادة الخير، ونشر الفضيلة، وغرس القيم بمحبة ومودة، فيتناصح الجميع وفق قيم المعروف والتقاليد في عملية تكاملية متساوية، حيث يكون الناصح اليوم منصوحاً في الغد، وهكذا دواليك، لأن كل واحد يحب للآخر ما يحب لنفسه، ويحرص على ما فيه مصلحته ونفعه، وهذا من الوفاء للأوطان وثوابتها، مع احترام للتنوع ومراعاة للقوانين والضوابط والمراتب والآداب، وتجنب الفضيحة التي هي الضد للنصيحة، وتجنب ما يؤدي ويحدث آثاراً سلبية في المجتمع، وينافي مقصد الخير والمصلحة. 
إن هذا المنهج النبوي والحق الكوني إذا رأيناه سلوكاً في مجتمعاتنا بين الكبار والصغار، والآباء والأبناء، والمدرسين والطلبة، سيكون لكل ذلك أثره الإيجابي في تعزيز أمننا الواقعي والافتراضي، وسيؤدي للحفاظ على مجتمعنا ونجاح مسيرتنا، قال الله تعالى: (ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة). ومن حكم الفلاسفة في النصيحة قول أفلاطون: (من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئاً، فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى الأثمان). 
النصح ليس له حد فتعرفه... والنصح مستوحش منه ومألوف
والناس غاو وذو رشد ومختلط... والنصح ممضي ومردود وموقوف

* كاتب إماراتي