تزايدت المقالات والتغاريد التي يتداول كاتبوها إلغاء وجود الإسلام وفق التاريخ المكتوب، وبالتالي الطعن بمسلماته. لا اعتراض على الشَّك في الرّوايات والحوادث والاعتراض على ممارسات ونصوص وغيره. لكن ما يتداولونه تشكيك مقصود لنسف التاريخ كاملاً، ومعلوم أن «التَّشكيك» قرين العناد، بينما «الشَّك» قرين العِلم. فحسب تشكيكهم، كأن تاريخ الطَّبري(ت: 310هجريَّة) «مسرحية» متخيلة لآلاف أسماء الشَّخصيات والأماكن، والأقوال، والأحداث، والأشعار، والأسانيد، كذلك بقية المؤرخين! 
دفع هذا الغلو، سعد الصويان لنشر مقاله «محمد النَّبي قائداً عربيَّاً»، مذهولاً مِما يبثه الإلغائيون مِن تشكيك(عكاظ، 18/8/2021). كما سمَّى هشام جعيط(ت: 2021) تهافتهم بـ«الهذيان»(برنامج حديث العرب 19/12/2020). 
جعل التَّشكيكيون كتاب «الهاجرية، صناعة العالم الإسلاميّ»(1977 الطبعة الإنجليزية)، المعرب بـ«الهاجريون»، منفيستو لجدلهم. شارك فيه «مايكل كوك»، وعنوانه مرتبط بهاجر أم النبي إسماعيل، ونفهم مِن عبارة «صناعة العالم الإسلاميّ» أنّ تاريخ الإسلام مجرد قصة مفبركة، لا حوادث حقيقية! راح الكتاب بما اعتبره «كوك» وثيقة، على أن النَّبي شهد فتح فلسطين! 
غير أنَّ «كوك» المفرط التَّخمين في «الهاجريَّة»، وثّق كتابه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي» بمصادر التاريخ نفسه! شاركت باتريشا كرون(ت: 2015)، تلميذة جون وانسرو(ت: 2002)، في تأليف «الهاجريَّة...»، وتبنت تخمينات أستاذها، مِن كتابه «دراسات قرآنيَّة»، الذي خمن أن القرآن اكتمل بعد مائتي عام، وعلى هذا تبنى المتهافتون خرافة تأسيس عبد الملك بن مروان(ت:86هجرية) للإسلام، تجاهلاً لتاريخ جمع القرآن، ككتاب «المَصاحِف»(ليدن1951) لأبي بكر السِّجستاني(ت:316هجرية)، حققه المستشرق آرثر جيفري، مع ترجمة لمفرداته. 
اعتمد السِّجستاني على مَن ألفَ قبله، أي قبل المئتي سنة التي خمنها «وانسرو» لوجود القرآن. ما كتبه الثلاثي الأميركي المذكور كان تخميناً، لكن المتهافتين العرب تناولوها حقائقَ. فما حاجة عبد الملك والمروانيون نسبة الإسلام لغيرهم وهو صناعتهم؟! 
لا نُقدس التَّاريخ، بل ندعو إلى غربلته، وهذا فعله قدماء، في الجرح والتعديل. أمَّا الحديث عن عدم وجود شاهد مادي، يبرهن وجود تاريخ الإسلام، ويرفعون كتاباً مثل «الهاجرية...»، وما تركه غربيون آخرون تخميناً لا توثيقاً، فلنا الحقُّ بالسّؤال: أين أصول مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وأُصول التَّوراة والإنجيل..إلخ؟! 
أغفل التشكيكون التاريخ الشِّفاهي، فالحفظ اقترن بندرة الكتابة، فلا عجب ممَن يسمع ويحفظ بشدة، ولا يصح تجاهل الإسناد في الرِّوايات. كذلك توجد كتابات اعتمدها المؤرخون الأوائل، لكن آنذاك لا وجود لثقافة التوثيق كي يُحتفظ بالأُصول. 
غُرَّ الإلغائيون لتاريخ الإسلام، بتخمينات، وما «الهاجرية» إلا تخميناً، ناهيك عن مئات المؤلفات، التي صُنفت على المنوال نفسه(راجع: الدّفاع عن محمد...، أتى عبد الرَّحمن بدوي(ت 2002) على عناوينها ومضامينها. 
لا نقول عما ورد في التَّاريخ كان صحيح التفاصيل كافة، لكنَّه كان متسلسلَ الحوادث، فليس ابن إسحاق(ت: 151هجرية) أول مِن كتب السِّيرة، ولا الطبري أول مَن أرخ، ولا البخاري أول جامع للحديث، إنما نقلوا عن كتابات سبقتهم. أما المتحدث عن فقدان عشرات السنين مِن تاريخ الإسلام، بحساب الزَّمن بين صدر الإسلام والبخاري، تنفعه الرِّواية: «أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنن، فكتبناها دفتراً، فبعث إلى كلِّ أرض له عليها سلطان دفتراً»(ابن عبد البرّ، جامع العلم). أقول: هل ضياع ذلك الدَّفتر يعني أصبح تاريخ الإسلام وهماً؟! كي يُخلق تاريخ آخر قوامه التَّخمينات! إنه التَّهافتُ لا المنطق؟! 

كاتب عراقي