ما يذكره التاريخ جيداً، هو أن الأحداث كانت تقع أولاً ثم يجري تحليلها واستخلاص العبر والمفاهيم منها، فالصراعات والنزاعات الدولية، كانت عبر التاريخ تحدث أولاً ثم يتم فهمها ومناقشتها والغوص في أسبابها وخلفياتها ووقائعها لتوثيق وتجسيد تجربة بشرية كاملة كنموذج يمكن من خلالها لاحقاً تجنب الصراع والنزاع، وإيجاد الحلول المبكرة والمبكرة لوأده في مهده.
الصراع الدولي، ليس شيئاً جديداً، فمنذ آلاف السنين، ترزح الأرض تحت جنون الصراعات والحروب والنزاعات على المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والدينية وغيرها، ومنذ ما قبل الحضارات القديمة كالإغريقية والرومانية وحتى يومنا هذا، ما زالت الصراعات تفتك بالإنسانية، وتحطم ما يحاول الحكماء والعقلاء والمبدعون بناءه لإيجاد مكان آمن هادئ مستقر، تنهض فيه الشعوب بالعلم والمعرفة والتطور ولما فيه خير للإنسانية جمعاء.
يقول عالم السياسة «كارل دويتش» إن «الصراع هو وجود أنشطة حادثة أو أفعال جارية، تتعارض مع بعضها البعض، وهو النشاط الذي لا يتفق مع واحد آخر، وهو الذي يمنع أو يعرقل حدوث أو فعالية النشاط الثاني». ويحدد «دويتش» في كتابه مع آخرين «المجتمع السياسي ومنطقة شمال الأطلسي: المنظمة الدولية في ظل التجربة التاريخية»، مفهوم المجتمع الأمني بأنه «منطقة محددة يكون استخدام العنف فيها غير وارد»، أي تخلو من الصراع، ويقول إن «المجتمع الأمني هم مجموعة من الناس قد توصلوا إلى معاهدة أن المشاكل المشتركة يمكن حلها، ولابد من حلها بطرق التغيير السلمي، ومن خلال إجراءات، ملتزمين بروح الفريق والثقة المتبادلة والمصالح المشتركة بينهم».
وحسب الموسوعة السياسية، فإن دائرة المعارف الاجتماعية تعرف الصراع السياسي أنه موقف تنافسي خاص يكون طرفاه أو أطرافه على دراية بعدم التوافق في المواقف المستقبلية المحتملة، والتي يكون كل منهم مضطراً فيها إلى تبني أو اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني أو الأطراف الأخرى، ويرى «معهد هايدلبيرغ لبحوث النزاعات الدولية» أن الصراع هو تصادم على القيم الوطنية على الأقل بين طرفين من الجماعات المنظمة والدول ومجموعة من الدول والمنظمات المصممة على السعي نحو تحقيق مصالحها ونصرة قضاياهم، ولكن يجب التمييز بين الصراع الدولي بمفاهيمه المختلفة وبين الصراع الداخلي في المجتمع الواحد كالصراع الطائفي أو السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي، وأيضاً التمييز بين الصراع الدولي والنزاع الدولي الذي عرفته محكمة العدل الدولية بأنه خلاف حول نقطة قانونية أو واقعية أو تناقض وتعارض للطروحات أو المنافع بين دولتين.
يمكن دراسة التفسيرات النظرية حول «ظاهرة الصراع الدولي» من مداخل مختلفة، فالمدخل النفسي مثلاً يتناول الصراع من خلال ربطه بالنزعة العدوانية والطبيعة الإنسانية، فحسب «سيجموند فرويد» فإن هذه النزعة العدوانية سببها غريزة حب التسلط والانتقام والسيطرة والتوسع لإشباع النزعات المكبوتة، أما كينيث والتز فيقول إن دوافع الصراعات سببها مشاعر الأنانية والغباء الإنساني، وسوء توجيه النزعات العدوانية، والاتجاه الثاني يفسر الصراع من بوابة الإحباط، حيث يربط «جون فلوجل»، بين الدافع السيكولوجي والرضى الشعبي، فيقول إن الشعوب التي تتوفر لها الحاجات الأساسية تكون أقل استعداداً للصراع مقارنة مع الشعوب المحرومة، والتي لا تتمتع بشعور الرضى، لذلك يرى «إيريك فروم» أن شعور الإحباط سيؤدي بكل تأكيد إلى العنف والميل للتدمير.
الاتجاه الثالث والرابع لتفسير ظاهرة الصراع الدولي من مدخلها النفسي يركزان على الشخصية القومية والمعتقدات القومية، فالقوة الرئيسية الدافعة، حسب الاتجاه الثالث للصراعات الدولية، تتمثل بالطابع العدواني القومي التي تسمى سيكولوجية قومية عدوانية. أما المعتقدات القومية فهي في نمطها السلبي تُبقي على نظرة تشاؤمية سلبية عدائية تجاه دول أخرى كما يحدث بين أميركا وروسيا بما يشبه التعنت والعناد، وفي نمطها الثابت تُبقي على صورة نمطية تجاه الأمم الأخرى غير قابلة للتغيير الذي يتماشى مع الواقع والمتغيرات كما هي بين القومية الفارسية والقومية العربية والذي يؤدي غالباً إلى عداء تاريخي يمكن معالجته بتقليص الفجوات وحل كل مفردات سوء التفاهم، وكذلك النمط بالغ التبسيط وهو المبالغة في وضع تصورات لأسباب التوتر الدولي، وقد تكون تصورات غير حقيقية أو مثبتة، إنما تستند على لوم دولة أخرى بحجة نواياها السيئة، كما حدث خلال أزمة كورونا وكيف ذهبت دول عديدة للوم الصين لوماً شديداً على انتشار الفيروس مثلاً، فتصاعدت حدة التوتر والصراع دون تمحيص صحة تلك التهمة المرسلة.
سنتحدث لاحقاً عن المداخل الأخرى لتفسير ظاهرة الصراع الدولي كالمدخل الأيديولوجي والجيوبولتيكي ومدخل أنظمة الحكم والنظام السياسي الدولي والمصالح القومية وسباق التسلح والمداخل السياسية والاقتصادية التي تتسبب في خلق وتوسعة الصراع الدولي وتمنع من تخفيف حدته ونتائجه، والتي لم تتعلم من دروس التاريخ ما يعينها على السلام والوئام والأخوة الإنسانية.

*لواء ركن طيار متقاعد